الإثنين 2020/04/13

آخر تحديث: 12:52 (بيروت)

طيران فوق عش الكورونا

الإثنين 2020/04/13
طيران فوق عش الكورونا
كاتدرائية ميلانو
increase حجم الخط decrease
هناك قدر كبير من المعلومات تبثها وسائل الاعلام والتواصل من حول هذا الفيروس اللعين. مضخات هائلة من الرعب تعمل على مدار الوقت. ومع كل نهار يمر، تتراجع معنويات الناس الذين يتابعون أرقام الإصابات والوفيات. واللافت أن أحداً لا يكترث لأعداد الذين حالفهم الشفاء، مع أنهم في حسابات الأرقام، أكبر من الوفيات بكثير، وهذا مؤشر حساس إلى أن كل شخص ينظر إلى الأرقام من زاويته الخاصة.

تخبرنا الأرقام بأن نسبة الوفيات قليلة جداً، ولا تتجاوز في بعض البلدان، خمسة في الألف. لكن أحداً لا يجادل، أو حتى يهتم بالنسب. لسان حال كل منا يقول: افترض اني كنت من بين الخمسة الذين سيأخذهم الوباء. ما يهمني بالبقية؟ "إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر". قل عني ما تشاء. لا أريد أن أموت بهذه الطريقة الوحشية. هناك إجماع على أن الموت على هذا المنوال يحتمل قدراً كبيراً من الكلبية والعدوانية. وتقول معلومات طبية أن عنف هذا الفيروس يفوق الأنفلونزا العادية بعشرة أضعاف. الانفلونزا تحتاج، أحياناً، إلى أسبوع كي يخرج المصاب من دورتها المباشرة، وإلى أسبوع آخر كي ينظف مخلفاتها. أما مع هذا الفيروس، فقد يشفى المصاب، لكنه لن يعود إلى ما كان عليه قبل الإصابة. هناك آثار لدى بعض المصابين قد تستمر طيلة الحياة، وبعضها يمكن أن يصل النسيج الدماغي. مضاعفات نفسية لا تقل عن تلك التي يخلفها التعذيب في المعتقلات السياسية. تترك جراحاً داخلية لا سبيل لعلاجها.

توصيف الآثار بأنها شبيهة بالتعذيب على الطريقة الصينية، لا يحمل أي رائحة عنصرية، لأن هدف التعذيب الصيني هو تدمير من يتلقى العذاب، نفسياً، ومن بعدها يتكفل نظامه الجسدي بتدمير نفسه، لكن بطريقة بطيئة مبرمجة. ومع مرور الأيام في العزلة الإجبارية، لن تقتصر الآثار السلبية على الذين يلتقطون الفيروس، بل ستتعداها إلى المحبوسين في بيوتهم وهم يعدون الليالي، ليلة بعد ليلة. وحين تتفاقم أعراض الحجر الصحي، سيبدأ المزاج العام بالانحدار، لن نتحدث بالكلمات نفسها عمّن فقدوا وظائفهم وأعمالهم وعليهم أن يعيلوا أطفالهم. ومنذ أن بدأ الوباء ينتشر بقوة في أوروبا، منذ منتصف مارس/آذار الماضي، صار الأمر يعني كافة الناس، ورغم ذلك يبدو العالم ضائعاً خارج غسيل الأيدي بالصابون ووضع الكمامة. وهذان الاجراءان الاحترازيان لا يشكلان، مع مرور الوقت، مانعاً من الضرر الذي تخلفه يوميات الفيروس. وفي حين أن غسيل الأيدي، كلما لمس المرء جسماً غريباً أو قريباً، يبدو غاية في السهولة، فإن فقه الكمامة لا يحتمل إحالة أكثر بلاغة من كم الأفواه وقطع الأنفاس التي أخذت مداها في الحرية عالمياً بعد الحرب العالمية الثانية. وأكثر من ذلك، بقيت البشرية ضائعة أكثر من شهر، وهي تبحث عن أجوبة حول دور الكمامة وطرق استخدامها، ورغم أنها صارت من بين أغلى الهدايا اليوم، فإنها لا تلبي الحاجة على المدى الطويل.

وبعيداً من هذا، أظن أنها ستصبح لازمة لحياة الرجال قبل النساء في المستقبل، وقد يضطر العالم أن يعيد الاعتبار للنقاب، ومن غير المستبعد أن يرتدي العمال الذين سيعودون للعمل قريباً، ملابس عمل تعتمد الوقاية، يتم تصميمها على مبدأ النقاب الداعشي، أو رواد الفضاء.

ليس هذه هو المهم اليوم. الأهم أن الفيروس يرافق كلاً منا في كل حركاته. فيروس قد يكون في داخل دم المرء وهو لا يحس به، ينقله إلى شخص آخر بينما يبقى هو صحيحاً. أي أن علينا ألا نكتفي بالابتعاد من المصابين أو ممن تبدو عليهم الأعراض. إن كل من يتحرك هو حامل مفترض للفيروس. كل سطح، والهواء أيضاً.. هذا ما تقوله النظريات يومياً. وقد يأتي مدسوساً في أي شيء، في زجاجة الماء أو علبة اللبن أو حبة البندورة أو غلاف ربطة الخبز أو على ظهر القطة التي ترجع الى البيت ليلاً بعدما قضت يومها تتنزه خارجاً. لا مفر اذن. هو في كل مكان "أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة" (قرآن كريم). ما هو الحل إذن، حتى يخرج الكون من هذا الاكتئاب الصيني، وما هو السبيل للهرب من هذه الواقعية الصينية القاتلة؟

لا مخرج إذا استمر الوضع على ما هو عليه. العالم سيبقى يترنح، حتى ينتهي به الحال الى عدد كبير من الوفيات والمعطوبين والمهزوزين والفقراء، قبل أن يصل العلماء الى لقاح بعد عام، أو عام ونصف العام، حسب التقديرات التي يعلنها الاختصاصيون المعنيون. لن تعود الحياة إلى طبيعتها السابقة أبداً، بل ستحتاج الى زمن كي تُرمم الكثير من الكسور والتشوهات. هذا في ما يخص الأجيال غير الشابة التي قد تأخذ الأمر مثل مزحة ثقيلة، كما رأى الناس الحرب سابقاً، على حد وصف الشاعر جاك بريفير: "يا لها من حماقة هي الحرب"! 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها