الأحد 2020/04/12

آخر تحديث: 10:07 (بيروت)

من العزلة الأمنية السورية إلى العزلة الوبائية الكونية

الأحد 2020/04/12
من العزلة الأمنية السورية إلى العزلة الوبائية الكونية
ذات حكاية سوداوية، ذات كابوس، أشبه بفيلم رعب هوليوودي
increase حجم الخط decrease
ذات حكاية سوداوية، ذات كابوس، أشبه بفيلم رعب هوليوودي، نتابع أحداثه يومياً على شاشة التلفاز، على مدار الساعة، وتتوالى حلقاته كمسلسل تركي استهلاكي استعراضي، تجاوزت عدد حلقاته حتى الآن المئة، دون أفق واضح  لنهايته... نشاهده بانفعال أكبر، كلما تقدمت أحداثه، فأعداد الموتى تتزايد فيه بشكل مرعب، ولا تعني لنا سوى أرقامٍ، حيث لا قيمة للفرد، بل لـ"القطيع الجمعي" الذي يمضي إلى موته المحتوم. وبهدوء، نتناول الطعام، ونشرب الشاي، ونحن على الأرائك المريحة في غرفنا، ونشاهد هذا الكابوس.

وفي نهاية السهرة، نطفئ التلفاز، نمضي إلى فراشنا، وننام بأمان، فالأحداث الكابوسية، ومآسيها الحزينة، تدور هناك بعيداً جداً، في الصين، وراء "أسوار يأجوج ومأجوج"، حيث يتناول السكان في أسواق قذرة الحيوانات الحية الغريبة كطعام يومي؛ كلاب، وأفاعي، وجرذان، وخفافيش، وضفادع، وحشرات، ويرقات عملاقة... تُذبح أمامهم، ويتم تناول بعضها مباشرة، وهي تبدو نصف حية. نشعر بالاشمئزاز، ونحن نشاهد هذه الحيوانات تتلوى على الشاشة ـ وبخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية ـ. وتتوالى الأخبار، فمن هذه الحيوانات، انتقل إلى الإنسان فيروس مخيف، لم تعرفه البشرية سابقاً، فلا دواء ولا لقاح له، وتتوسع دوائره شيئاً فشيئاً. 

وحتى تزداد الإثارة في الفيلم، تتكتم الصين ذات الحكم الشمولي الصارم على الأخبار الحقيقية، وبخاصة أعداد المصابين والضحايا، بل ويتم الحديث عن تسرب الفيروس من أحد مختبرات الحرب البيولوجية لديها، ويختفي أطباء وصحفيون تحدثوا عن الفيروس وتفشيه، بعد اعتقالهم، فـ"العولمة الاقتصادية الصينية" تتحدى مثيلتها الأميركية المسيطرة على العالم، بل وتسعى للحلول مكانها، ولن تسمح لفيروس صغير، لا يمكن رؤيته بالعين المجردة، أن يعطل مشاريعها الاقتصادية التوسعية... لكن سرعان تفلت الأحداث من السيطرة، فيما تجهد آلة الإعلام الصينية ببناء صورة عملية عن السيطرة على الوضع، بدءاً من بناء مشفى ضخم في 10 أيام، وحصار مدينة تعداد سكانها بالملايين... لكن من يصدق الأرقام الصينية.

وحتى لا نشعر بالملل من فيلم ـ مسلسل الرعب، تتطور الأحداث الكابوسية، وتتوسع إلى بؤرة جديدة؛ إلى دولة شمولية أخرى، إنما بطابع ديني هذه المرة، حتى يرتفع منسوب إثارة مغاير؛ إلى إيران، المهووسة بتجمعات الحجيج في مزاراتها الدينية الشيعية، وهي تنتظر "إمامها المهدي"، الذي سيعود على أنقاض خرائب العالم، ويُنشئ حكومة تمتد من الاسكيمو إلى أستراليا، ومنها إلى المريخ. يتسلل الفيروس إلى هنا، فيعلن "الحرس الثوري الإيراني" بأن الفيروس الجديد هو "هجوم بيولوجي أميركي"، ويؤكد الخامنئي بأن المؤامرة هذه هي نتاج هجوم مشترك بين "الجن والإنسان"، فتتندر صفحات التواصل الاجتماعي عن تشكيل فرع مخابراتي إيراني خاص لملاحقة "الجن الأشرار". تتكتكم إيران أيضاً على الأخبار الحقيقية، فهي لديها "عولمتها الشيعية الدينية"، أداة امتداداتها في بلدان الجوار، بكل المآسي التي حملتها للإنسانية هنا، منذ أن تغاضى أوباما عن توسعها الإقليمي، مقابل أتفاق نووي هزيل، يُكرس به شهرته كحامل "نوبل للسلام"، بعد انتهاء ولايته. وهي لا ترغب في أن تفقدها من أجل فيروس صغير، لا يمكن  رؤيته بالعين المجردة.

المزارات الشيعية تعج بحجاجها، الذين "يلحسون الأضرحة بألسنتهم"، ويتمرغون على أرضها، تحدياً للفيروسات، فـ"الأئمة" يحمونها من الأمراض والأوبئة، بل ويتلقى بعض الحجاج اتصالات من "الأئمة"؛ من عوالمهم الغيبية، على الهواتف المحمولة. يتحدى منشدو اللطميات مباشرة فيروس الكورونا مباشرة بالصراخ المجنون وإثارة الجموع المهووسة، التي تتحدى تعليمات التجمعات، ويجول أصحاب العمائم على المشافي، يحملون "زجاجات مباركة"، يدهنون بسوائلها فتحات الجسد لدى المصابين، بل ويدعو أحد المعممين إلى المساهمة في نشر الوباء، حتى يزيد الخراب على الأرض، فيعجل بـ"عودة المهدي"... لكن لا الأضرحة ولا اللطميات، ولا الخرافات ولا التوهمات، كلها لا تجدي نفعاً بوقف مد الفيروس، وإيقاف الموت الكابوسي، فأعداد المصابين والموتى بلغت أرقاماً قياسية، أضعاف ما يتم الإعلان عنه رسمياً، وهو ما تم  فقط بعد أن فلتت زمام الأمور من أيدي السلطات.


 تُفرغ السلطات الإيرانية المزارات الشيعية من حجاجها، مرغمة، وتوقف السلطات السعودية مثلها طقوس العمرة في الكعبة، وتختفي "صلوات الجماعة"، تحت ضغط الخوف من انتشار الإصابات، فالإله، ونوابه وممثليه، "الغائبين" و"الحاضرين"، بكل عمائمهم وجيوشهم، عاجزين عن حمايتها أمام الفيروس. يبدو "الإله"، أو بالأحرى "الآلهة" ـ بقدر تعدد الجماعات الدينية في منطقتنا، التي تعلن كل واحدة إلهها الخاص، الذي يميزها ويكفر "الآخر" بالسيف ـ عاجزين عن وقف انتشار الفيروس، كما هم عاجزون، في العادة، عن إيقاف المجازر الوحشية اليومية، التي تتم باسمهم يومياً، وتصيب البلاد منذ زمن السيوف الدموية وحتى زمن البراميل المتفجرة... هي فرصة للإنسان، كي يتحرر من الأوهام، ويبحث عن الخلاص في الواقع، فالعمائم الفاشلة، بكل فئاتها وتنوع طوائفها، لا تجد الدواء في "الكتب الإلهية"، رغم إعلانهم المستمر أن جميع النظريات العلمية، من "الفيزياء الكوانتية إلى التناسخ الجيني"، موجودة فيها. ولا تسعفهم أيضاً كتب "طب الأئمة" و"الجن والعفاريت"، و"الأدعية" و"حبة البركة السوداء" في مواجهة الوباء. لذلك، ينتظرون الدواء واللقاح من "الغرب الكافر والإباحي"، الذي يأكل "لحم الخنزير" ويتناول "المشروبات الكحولية"، ويعترف بحقوق "المثليين".


 ومع ذلك، لا يتراجع المعممون عن توهماتهم الدينية والطائفية، كمبرر لوجودهم وسيطرتهم على "قطعان المؤمنين"، بعد أن ألغى فيروس صغير مبرر وجودههم، ووجود معابدهم. ويعودون إلى الحكاية القديمة ـ الجديدة، فالموت بالمجازر الوحشية، التي تجتاح البلاد ـ ومثلها الآن الوباء ـ هي عقوبة للناس لابتعادهم عن "الإيمان"، ولاختبارهم في "المصائب الإلهية". ولماذا يختبرهم "الإله"، ومن أجل أي نزوات، بملايين القتلى البريئين في حروب عبثية وأوبئة وكوارث طبيعية، رغم أنهم بنوا له أعداد هائلة من دور العبادة الباذخة والفاخرة ـ بدلاً من المشافي مثلاً، استعداداً لهذه الأيام الصعبة ـ يجتمعون بها باستمرار، ويتوسلون بها إليه، بقيادة جيش ضخم من أصحاب العمائم الأميين الجاهلين، ومثلهم قادة سياسيون طائفيون، يعيشون جميعهم أزمنة ما قبل الحداثة، في بنى العائلة، والقبيلة، والطائفة. وبانتظار الدواء من "الغرب الكافر" ليس لهم إلا الدعاء ـ للإله، أم لهذا "الغرب"! ـ، بدءاً من التكبيرات على الأسطح والشرفات، وصولاً إلى الدعاء الكاريكاتير لـ" الرئيس المؤمن السيسي" بعد كل أذان. وإذا لم يسعفهم هذا الغرب بالعلاج عاجلاً، فسيموتون هم وإلههم من جوع للصلوات، ويحل مكانهم نهائياً الطبيب ليقود الجموع نحو الخلاص.


يغادر فيلم الرعب الشاشة، وينتقل إلى الواقع، بعد دخوله إلى المنطقة العربية. لكن لا بد من بعض الفانتازيا المجنونة الساخرة، التي لا تتقنها إلا مخيلات الديكتاتوريات العسكرية العربية، وأشباهها من الحكام العرب. فلا تجرؤ حكومات دول لبنان وسوريا والعراق على إغلاق حدودها مع إيران، بسلطة الجماعات الشيعية المسيطرة فيها، الخاضعة لطهران، إلا بعد أن نشرت الميليشيات الإيرانية وحجاج المزارات الوباء فيها على نطاق واسع.


 لا تعترف سوريا بوجود مصابين وضحايا للوباء، فالبلاد خالية من فيروس كورونا، مادام "الله حاميها"، بسبب "عبقرية عسكرية ـ طائفية" تقودها، بعد تناسخت من السماء في بذلة مموهة، فتجاوزت بقدراتها الإبداعية غباء سلالة "كيم إيل سونغ" الكورية الشمالية. ومن يموت بالوباء، يتم الإعلان عن وفاته بـ"التهاب رئوي حاد"، كما يموت "معتقلوا الرأي" من جميع الأعمار في المعتقلات بـ"أزمات قلبية". وفي كلتا الحالتين تختفي الجثث، الأولى، حتى لا تنقل وباء "الحقيقة"، والثانية، حتى لا تنقل وباء "الحرية". ويتحدث وزير الصحة السوري، الذي يُعد في "أعلى درجة من نخبة تكنوقراط المافيات الحاكمة" بأن "الجيش العربي السوري قضى على الجراثيم في سوريا"، وأنه لا وجود لفيروس الكورونا فيها، رغم انتشاره الكثيف في البلدان المجاورة. وعلى اعتبار أن مثل هذا التكنوقراط الطبي لم ينه حتى دورة تمريض عادية، وقد تخرج من بيروقراطية غباء البعث"، برتبة مخبر في جهاز أمني، فهو بالطبع لن يميز بين الجراثيم والبكتيريات والفيروسات. وهو يقلد "رئيسه المفدى"، الذي قضى على "الإرهابيين"، الذين يسميهم "الجراثيم"، فظن "الكورونا" كائناً بلحية يحمل سيفاً، ويمكن القضاء عليه بالصواريخ والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية، بخبرات ليس فقط روسية وإيرانية... بل وصينية. ونسي الوزير أن يرتدي بذلة مبرقعة ويحمل بندقية، وهو يدلي بتصريحه لمحطة تلفزيونية محلية عن القضاء على "الجراثيم"، لكن بالتأكيد ارتدى البوط العسكري في رأسه.

إذا كان هذا التكنوقراط الطبي على هذه الشاكلة من الغباء، فكيف بالتكنوقراط الاقتصادي، مثلاً، الذي باع البلاد، بمكامن ثرواتها من النفط والغاز والفوسفات، وألحق بها الموانئ البحرية والجوية، وسوف يبيع قريباً الهواء، الذي يتنفسه الناس، بتوجيه من قيادات مافيات الميليشيات الحاكمة. ومادام الكورونا غير موجود في سوريا، فَلِمَ يتم فرض منع التجول في المدن والبلدات السورية، ويتم الحجر على مناطق كاملة.

وفجأة يقترب كابوس الكورونا من أوروبا، ـ حيث أعيش هنا منذ عامين ونصف في ألمانيا ـ.  يتخلى عن كونه فيلماً، ويغدو واقعاً مرعباً، فارتفاع نسبة الوفيات في إيطاليا يقارب وسطياً 800 وفاة يومياً، وتلحقها إسبانيا، وقريباً فرنسا، بالأعداد ذاتها، وما زالت حكوماتها تقول بأن بلادها لم تبلغ بعد ذروة تفشي الوباء. الحكومات الأوروبية شفافة بطبيعتها الديمقراطية، تحترم شعوبها، وتعلن الحقائق القاسية، بعكس الصين، وروسيا، وبذروة عالية من الكذب لدى معظم بلدان الشرق الأوسط، التي تخاف انفضاح تهلهل أنظمتها الصحية، و تدميرها المنظم، وهجرة الكوادر الطبية منها... والأهم انفضاح غباء آلهتها الخالدين على سدة الحكم.

لكن الجثث تتراكم في المشافي الإيطالية، فتجول بها شاحنات الجيش ليلاً في جولة وداع أخيرة في المدن من الناس على الشرفات، قبل حرقهم. ولا ينفع غناء المحجوزين في شققهم من على الشرفات، ولا مشاركة رجال الشرطة لهم من الشارع، بتلطيف الصورة المأسوية.

تعلن بعض الدول الأوروبية "سياسة القطيع" في مواجهة الوباء، وعلى رأسها بريطانيا ـ يُسر من ذلك "رأس المال" و"اليمين العنصري" ـ،هذه فرصة ذهبية، كي تتخلص القارة العجوز من عجائزها والمرضى والضعفاء، الذين يكلفون نظامها الصحي والتقاعدي غالياً ـ بغض النظر أنهم هم من بنوا أوروبا القوية، بعد دمار الحرب العالمية الثانية ـ، ولتبقى فقط الموارد البشرية المنتجة. يتم التراجع عن هذه السياسة بسبب تداعياتها، التي لا يمكن السيطرة عليها، ولا يمكن تنبؤها وضمانها، وسيُصاب مروج هذه السياسة نفسه، رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون، بالوباء، ويُدخل إلى المشفى. لكن عملياً، تموت هذه الفئة من المصابين بطريقة مأساوية ومحزنة، وبطريقة لا يتم السيطرة عليها، في جميع الدول التي يتكشف خلل أنظمتها الصحية.

في ألمانيا، يبدأ الإعلان الأولي الخجول عن حوالي خمسة ألاف إصابة، لتصل خلال أقل من شهر إلى أكثر من مئة وعشرة ألاف إصابة ـ وقت كتابة هذه الانطباعات ـ. لا يعني ذلك الكثير، فبقدر ما يتم فحص عدد كبير من الأشخاص، ترتفع الأرقام، وبالتالي يتم السيطرة أفضل على الوباء، من خلال معرفة المصابين ومتابعتهم. لكن المهم هو عدد الوفيات، فمقدار انخفاضها هو دليل نجاح المنظومات الصحية، وهو ما يحدث في ألمانيا.

وتزداد الضغوط على حكومة ميركل، كي تتخذ إجراءات حازمة، مثل إعلان حالة الطوارئ، وإنزال الجيش إلى الشوارع لفرض منع التجول. تعلن ميركل ومعها تيار عريض واسع من سياسي الولايات الألمانية ـ حيث نظام الحكم هنا يعتمد على الفيدراليةـ، أن "لا"، فالحرية التي أكتسبها الإنسان هنا لا يمكن التخلي عنها، ويمكن الاعتماد على تفهم الناس واحترامهم للإجراءات القاسية، التي تتخذها الحكومة، وعلى رأسها التباعد الاجتماعي. تعلو أصوات اقتصاديين من جديد، "الاقتصاد الألماني الأقوى عالمياً ينهار، علينا العودة إلى إجراءات العمل الاعتيادية، بغض النظر عن انتشار الوباء". تعلن ميركل والنخبة السياسية والعلمية بحزم، أن "لا، فحياة الإنسان هي الأثمن". وستستمر الدولة بدفع رواتب العاملين، وتأمين المساعدات المالية للشركات المتوقفة عن العمل، بدءاً من تلك التي لديها من 3 إلى 5 عمال، ودون مقابل.
أشاهد منظر الجيوش العربية بدباباتها، وجنودها المسلحين، ومعها دوريات الشرطة والأمن، تجتاح شوارع المدن العربية بطريقة استعراضية، تريد فرض منع التجول بالقوة. الناس متذمرون، يصرخون "إذا توقفنا عن أعمالنا، وانعزلنا في بيوتنا، فمن سيؤمن لنا لقمة العيش؟ وأصلاً، عندما نصاب بالمرض، من له القدرة على دفع تكاليف المشافي العالية؟". فقط، مافيات الدولة وميليشيات الحروب هي التي ستستطيع الصمود. كل الناس في العالم العربي يولدون عجائز، ومهمة الدولة سلفاً التخلص منهم، سواء بالحروب الأهلية العبثية، أو بالاعتقالات السياسية، والتهجير الديموغرافي... ومن ينجو منهم ستتكفل به "سياسة القطيع"، من جراء وباء "الفقر والجوع".

في اليوم السابق لتطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي في مدينتي، كانت الأسواق تغلي بالحركة. في اليوم التالي، تحولت فجأة إلى مدينة أشباح، بقيت فقط محلات المواد الغذائي والصيدليات البنوك عاملة. ورغم توفر المواد الغذائية بشكل طبيعي في الحي، الذي أسكنه أنا وعائلتي، فقد كان علي الذهاب إلى مركز المدينة، حيث يتواجد متجر تركي، يبيع خبزاً عربياً.

لم تنقطع الحركة الطبيعية لحافلات النقل العام، تحضر واحدة، يفتح لي السائق الباب الخلفي للصعود، أصعد، أنا وحيد في الحافلة. السائق المنعزل في صندوقه الزجاجي، لا يفتح الباب الأمامي حتى لا يحتك مع الركاب، وهو معزول عنهم بشريط أحمر عنهم، وشراء التذكرة من عنده أصبح ملغياً، الركوب مجاني. شعرت بالرهبة من وجودي في الحافلة وحيداً. تخترق شوارع ليس فيها مشاة، تجتازها سيارات نادرة عابرة. وكلما تقدمت الحافلة يزداد شعوري بذعر غريب. في ذاكرتي لا تتفرغ بلدة عربية بهذا الشكل إلا إذا كان هناك اجتياح أمني لها، وهو ما عشته ووصفته على سبيل المثال في روايتي "الغرانيق". كدت أنزل من الحافلة في أول موقف، وأعود راكضاً في البيت، فقد يتواجد حاجز ميليشيات أمني في نهاية الشارع، يعتقلني، أو يطلق النار علي. السائق الملول يتحدث معي بصوت مكتوم، لكنه ودود، من وراء قمرته الزجاجية، فهو يذهب ويجيء عملياً دون ركاب. تأكدت، عندئذ، أنه ليس هناك اجتياح أمني من الميليشيات لمدينتي الأوروبية، وإنما هناك غزو فضائي من كائنات غريبة غير مرئية.

صديقتي الروائية الألمانية، كتبت رسالة إلى بعض أعضاء اتحادنا المحلي، الذي يضم أدباء المنطقة، وأرسلت لي نسخة عن طريق بريدي الإلكتروني. تقول بأننا دخلنا في عزلة غريبة داخل منازلنا بسبب الوباء، وستمر أيام عصيبة، تتميز بالقلق والاضطراب والمشاكل الاجتماعية، وقد ينهار نظامنا الصحي، ويحدث ما لم يمكن تخيله. لذلك يجب أن نتماسك، ونقوي علاقاتنا مع العائلة في البيت، ونتواصل مع الأصدقاء دائماً عبر الانترنيت، ونساعد كبار السن من الجيران قدر المستطاع، فما رأيكم بما اطرحه!

كتبت رداً لصديقتي بقدر ما تسعفني به لغتي الألمانية، التي أحاول تعلمها ـ بعد أن رميت هنا لغتيّ الفرنسية والبولونية اللتين أتقنهما ـ، بأنني لا أخاف هنا من عزلة الكورونا، فأنا بأمان بقدر ما أطبق التعليمات الصحية. لكن ليتك تعرفين عزلتي الحقيقية أمام وباء الديكتاتورية، عندما أحتل العسكر بنايتي، التي كنت أسكنها، فهربت عائلتي منها بعد أول معركة حولها، وبقيت فيها صامداً ست سنوات معزولاً، ملاصقاً الذكريات والحنين فيها. وليتك تعرفين ما هو منع التجول الاختياري في الشوارع، خوفاً من القنص المجاني وحواجز الميليشيات، والرعب من مداهمة أمنية إلى المنازل، ما أن يُعتقل فيها أحدهم حتى يختفي نهائياً، بما فيه جثته، والجوع في حصار البلدات حتى تناول الحشائش... هذا هو الوباء الذي عشته.
جاء رد صديقتي قصيراً مقتضباً، وفيه شيء خفي من السخرية المبطنة، أنا أتحدث عن وباء الكورونا... وأنت تتحدث عن شيء آخر.

أعرف أن تعاطف المجتمع الألماني الحضاري مع أزمة اللاجئين السوريين وصل إلى ذروته في عام 2015. لكن بدأ يخفت تدريجياً مع الزمن، ليست فقط بسبب عبثية حروب الجنون في منطقتنا والنزاعات الإقليمية والدولية غير المفهومة فيها، وإنما أيضاً لأنه تم قبولنا في البداية لدواع إنسانية، لكن علينا الآن الاندماج وإيجاد عمل، وبالتالي التحول إلى دافعي ضرائب، حتى نُقبل كمواطنين مقيمين.

منذ ثلاثة أشهر تقريباً قرأت بالألمانية مقاطع من روايتي الجديدة "سرير على الجبهة"، في أحد اجتماعاتنا الشهرية لأدباء منطقتي، كان فيها مقاطع توثيقية حية عشتها، لاعتقالات عشوائية لمواطنين في سوريا، واختفاء جثثهم في المعتقلات، وبيع أعضائها، وعن البراميل المتفجرة وحصار الجوع للبلدات المنتفضة... وعندما انتهيت من القراءة، كان هناك وجوم يسود القاعة، بدلاً من التصفيق تعبيراً عن الإعجاب، كما يحدث عادة لأجنبي ينجح في إيصال أفكاره بلغة أجنبية صعبة... قطع الوجوم سؤال باحث فلسفي "صديقي هل ما كتبته، هو فانتازيا من الخيال، أم حقيقة تحدث في الواقع؟ غريب ما يحدث في بلدكم!".

تأكدت عندئذ كم هو من الضروري إتقان لغة البلد الذي تقيم فيه حتى توصل أفكارك بوضوح لأهله! 

الألمان مهووسون بالنظام والواجب والعمل، على حساب العواطف والمشاعر الإنسانية، وبقدر نجاحهم الباهر في حياتهم الاقتصادية، تتفكك حياتهم الأسرية والاجتماعية. العائلة لديها عادة طفل واحد، وأحيانا أثنين. الزيجات تنتهي دون طلاق، ينفصل الزوجان، يعيش كل واحد مع طرف أخر جديد في منزل آخر، بضمانة من الدولة، التي تعتبر هذه القرارات حرية شخصية. يحق للأولاد منذ الثامنة عشرة ترك عائلاتهم، واختيار شريك حياة يعيشون معه بعقد زواج، أو دونه... يبدو أننا نحن فاشلين في حياتنا، كنتاج مجتمعات عربية ـ شرقية، في حياتنا الاقتصادية، وكاذبين أكثر في مشاعرنا الإنسانية والعاطفية، والعنف الدموي هو جزء من شخصيتنا الشرقية.

في هذه الأيام يسود دفء، بعد موجة من الأيام الباردة، رافقت انتشار الكورونا. أجلس على شرفتي، المطلة على فسحة خضراء كبيرة، وينتشر أمامي عدد كبير من الشرفات. يستلقي الجميع على الأرائك، ويتشمسون. تتبادل النسوة الحديث عبر الشرفات، الأطفال ضجروا من المنازل، بعد أغلاق مدارسهم وملاعبهم في الحي، فنزلوا إلى الفسحة الخضراء يلعبون... هل تتحقق رؤية صديقتي الروائية بأن الكورونا فرصة جيدة لتجديد الروابط العائلية والإنسانية بين أفراد المجتمع الألماني.

إيران تطلب برجاء قرضاً ضخماً من البنك الدولي لمواجهة تداعيات الكورونا. أما الأموال التي تصرفها على عدد ضخم من الميليشيات الشيعية، في لبنان وسوريا والعراق واليمن، بكل الخراب والفوضى والدمار الذي تشعله فيها، والثروات الوطنية التي تسطو عليها في هذه البلدان، والأموال التي تصرفها على برنامجها النووي... فهذه لا علاقة لها بدعم المنظومات الصحية لمصلحة الشعب الإيراني  في مواجهة الكورونا.
أما المؤتمرات الصحافية الكاريكاتورية، التي يجريها ترامب، تؤكد أكثر فأكثر أنه ليس زعيم دولة عظمى، وإنما زعيم عصابات مافيا دولية، يدير ابتزازه على دول العالم كله. فالاقتصاد أهم له من صحة الناس، ومعدلات الموتى ترتفع في أميركا بطريقة غريبة ومأساوية، وكأن ما يحدث فيها يتعلق بدولة متخلفة، وليس دولة عظمى. أمريكا تسطو على طائرات تحمل أطنان من الكمامات الطبية متوجهة إلى المانيا وفرنسا، تدفع مباشرة ثلاثة أضعاف أسعارها على أرض المطارات، ويجد ترامب هذا طبيعياً. بل ويهدد بالانسحاب من منظمة الصحة العالمية، لأنها لا تتبنى قرارات دولته، على اعتبار أنه هي التي تدفع لها أموالاً أكثر. وهو يروج الآن بشكل شخصي في مؤتمراته الصحفية لدواء الكلورفين، الذي تمتلك أفراد من أسرته حصصاً في شركة أدويته، رغم إعلان مستشاره العلمي بتهديده لصحة المواطنين الأميركيين، لعدم وجود أدلة علمية على صلاحيته للكورونا. التنافس يحدث أيضاً بين الولايات الأميركية نفسها، وكأن كل واحدة دولة مستقلة... وإضافة إلى هذا، لم تتخذ الولايات المتحدة موقفاً إنسانياً بتقديم مساعدات طبية أو إنسانية لإحدى الدول الفقيرة. 

جميع سكان الدول تحتاط لأيام عزل طويلة بسبب الكورونا، بشراء كميات كافية من الأغذية... إلا الأميركيون، يستعدون لذلك بشراء المزيد من الأسلحة الفردية. 

الرئيس بوتين، الذي كرس نفسه رئيساً لمدى الحياة، بعد أن جرب صواريخه العابرة للقارات، وأسلحته الحديثة، على أجساد السوريين العزل، وساهم بتدمير المدن والبلدات السورية، يشعر بالنجاح مع ارتفاع مبيعات أسلحته. وبما أن كل قرارات ترامب تصب لمصلحته، في علاقة خفية بينهما، فليتوجه الآن إلى تدمير الاتحاد الأوروبي المنافس الأقوى له، ليس فقط اقتصادياً، وإنما أيضاً حضارياً وإنسانياً. يقوم بإرسال شحنة مساعدات طبية إلى ايطاليا لمساعدتها في مواجهة كورونا، فتكشف صحيفة إيطالية بان 80% من المعدات فيها غير صالحة، وأن البعثة تضم عدداً كبيراً من العسكريين، الذين يعملون على إيجاد خرق أمني في منظوماتها.  

الخاسر الأكبر من الكورونا هي "الموجة الثانية" من انتفاضات "الربيع العربي"، في لبنان، التي هددت القلاع العفنة لأمراء الطوائف، والعراق، التي دعت لمجتمع مدني بعيد عن الطائفية الشيعية، والجزائر، التي تحدت المومياءات العربية الحاكمة. والرابح الأكبر هنا هو أنظمة الخليج العفنة، التي أجهضت الموجة الأولى لـ"الربيع العربي"، لكنها لن تستطيع فعل شيء مع "الموجة الثانية"، بعد انفضاحها. ويدفعها تنافسها العشائري ـ القروسطي إلى التحالف مع أي عدو للمنطقة العربية، من إيران وتركيا إلى إسرائيل... وهي بعد ما أحيت التنظيمات السلفية الدينية الإسلامية بكل خرابها، هاهي تتجه إلى إحياء ديكتاتوريات العسكر، الوجه الآخر للخراب الإسلامي..

المستقبل القريب للكورونا يحمل سيناريوهات متعددة للبشرية، وسط خريطة الصراعات السياسية والاقتصادية للدول، من السيئ إلى  الأسوأ... والأسوأ هو حرب نووية، أو فيروس جديد، يحولنا إلى مصاصي دماء.  


(*) شهادة كتبها الروائي السوري مازن عرفة لـ"المدن" عن يوميات كورونا















increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها