السبت 2020/03/07

آخر تحديث: 12:56 (بيروت)

إرنستو كاردينال... حين تكون مارلين مونرو ميديا ضد الرأسمالية

السبت 2020/03/07
إرنستو كاردينال... حين تكون مارلين مونرو ميديا ضد الرأسمالية
الكاهن الثوري أو "ورجل الدين الماركسي"، على حد وصف كاسترو
increase حجم الخط decrease
نقرأ في مسيرة الشاعر النيكاراغوي الراحل، إرنستو كاردينال(95)، أنه كان كاهناً ثورياً وصوفياً و"ورجل دين ماركسياً"، على حد وصف كاسترو، ينتمي إلى لاهوت التحرير ويدعو الى فتح الكنائس للفقراء ويتشبّه بغيفارا، ومن ميزاته أنه كتب قصيدة بعنوان "صلاة من أجل مارلين مونرو"...

قد يتخيل القارئ أن الكاهن الكاثوليكي الثوري، "المنشق" عن الكنيسة الفاتيكانية البابوية، سيكتب إلى مارلين مونرو من بوابة الصداقة أو المجون أو صناعة الاكزوتيك والاغراء أو الغزل... لكن القصسدة، في الواقع، كانت نقداً واضحاً للرأسمالية، من الكاهن الذي اختار التيمة "الذكية" لإيصال "رسالته". فلو أنه كتب نقداً للرأسمالية من دون اسم مارلين والتطرق إلى حياتها، أو من دون عنوان "صلاة من أجل مارلين مونرو"، لكانت القصيدة عابرة وروتينية ولا تحظى بالرواج اللازم والشعبوي... كان اسم مارلين وشخصيتها ورمزيتها وحياتها التراجيدية والهشة والبائسة، رغم الصور والأضواء والصخب، ميديا قوية لتكون القصيدة شعبية وهذا ما أظهره "فايسبوك" ووسائل الإعلام... ويتّهم كاردينال في القصيدة، الرأسمالية الأميركية بأنّها السبب في تجريد الإنسان من آدميته، تماماً كما حدث مع مارلين التي يُعتبر تجريدها من اسمها الحقيقي (نورمان جين) انتزاعاً لكرامتها. كما ينتقد الاستخدام التجاري لجسدها كسلعة سينمائية، وهي "اليتيمة المغتصبة في سن التاسعة، وخادمة المتجر الصّغيرة ذات الـ16 ربيعاً، حيث أرادت أن تقتل نفسها"، و.."تذكَّر أيُّها الرَّب خوفها الزّائد أمام الكاميرا/ وكُرهها للمكياج- مع الإصرار على تزيينها عند كل مشهد/ وبما أن الرّعب ازداد/ ازداد حتماً تأخرها عن الوصول للإستديو"... ويصف كيف أننا لم نعرف سوى الجانب الزائف من هذه الشخصيّة بسبب الرأسماليّة المتوحشة، بينما ستذهب روحها الحقيقية مجردة إلى الله.

كان كاردينال، أحد أبرز وجوه ما يُمكن تسميته "نادي رجال الدين المؤثرين في بلادهم"، مثل المطران أوسكار روميرو في السلفادور، والأب بيار في فرنسا، والبابا يوحنا بولس الثاني في موطنه بولندا، الأب غوستافو غوتييريز في البيرو، وغيرهم كثر. درس اللاهوت في المكسيك في مطلع الستينيات، وكان يرى أن الكنيسة في الأصل هي للفقراء لأن السيد المسيح كان ثائراً وثورياً، وخطابه كان خطاب ثورة، وبعد عودته إلى نيكاراغوا (1965) اعتكف في إحدى جزر أرخبيل سولينتينامي في "بحيرة نيكاراغوا الكبرى"، وأسس جماعة للمثقفين والتشكيليين "البدائيين"، في سعيٍ منه إلى إعادة اكتشاف الروح النيكاراغوية الأصيلة بمختلف روافدها. وشكلت هذه التجربة محطة فارقة في مساره الأدبي، كان من ثمراتها كتابه "إنجيل سولينتينامي" الذي كان بمثابة بيان تاريخي للاهوت التحرير في نيكاراغوا. وكاردينال كان مقرّباً من نظام كاسترو الكوبي الشيوعي، وشارك في الثورة السانديدنية التي نجحت العام 1979 في إطاحة نظام سوموزا الاستبدادي، وتولى وزارة الثقافة في أول حكومة ساندينية. وعلى الفور أطلق محترفات لكتابة الشعر في مجموع البلاد، تشجيعاً للإبداع الشعري، كما عمَّم مجموعة من النصائح بعنوان: "بعض القواعد لكتابة الشعر". دعا فيها إلى نسيان الوزن والقافية، وإيثار المحسوس على المبهم، وذكر الأسماء الشخصية، وإعطاء الأولوية للأحاسيس على الأفكار، وأن "نكتب كما نتكلم"، و"أن نشحن اللغة ما أمكن". ولا يخفى أن هذه الوصايا تصدر عن إيديولوجيا تثمّن البساطة وتولي أهمية للقيم الشعبية، في تناغم مع الفورة الثورية التي كانت سائدة آنذاك.

على أن مواقف كاردينال الخاصة بلاهوت التحرير، أثارت غضب بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني، في ذلك الوقت، حتى أنه نَهَر كاردينال، علناً، على مدرج مطار ماناغوا لدى وصوله في زيارة رسمية العام 1983. ورفض البابا يومها مباركة الكاهن، الذي ركع أمامه وطلب منه أن "يتصالح مع كنيسته أولاً". لم يلبِّ كاردينال رغبات البابا، وظلّ وزيراً للثقافة، ما دفع الفاتيكان إلى منعه من ممارسة خدماته الكهنوتية في 30 يناير 1985. التزم كاردينال بقرار البابا طيلة 34 عاماً، ولم يقم بأي نشاط رعوي. وظلّ كاردينال خصماً ليوحنا بولس الثاني، ثم لخلفه بينيديكتوس السادس عشر، إلا أن البابا فرنسيس قرر رفع كل العقوبات الكنسية عن كاردينال في 2 فبراير/شباط 2019، عبر منحه البركة البابوية على يد المطران فالديمار سوميرتاغ. وعلى الأثر، احتفل كاردينال بقداسه الأول منذ العام 1985. وكان السفير البابوي في ماناغوا قد زار كاردينال مراراً، بعد وصول البابا فرنسيس إلى سدّة البابوية العام 2013. 

وكان كاردينال قد نأى بنفسه عن دانيال أورتيغا، وغادر الجبهة الساندينية في العام 1994. قبل ذلك، وبعد انتصار الثورة الساندينية، أطلق حملة لمحو الأمية وحظي في أعقابها بتنويه كبير من هيئة "يونيسكو". وبفضل هذه المبادرة، تمكن أكثر من 500 ألف مواطن في نيكاراغوا من تعلّم القراءة والكتابة. انخرط كاردينال في حركة تجديد الثورة الساندينية، التي شاركت في الانتخابات الرئاسية العام 2006، مؤيداً إدواردو مونتياليغري، بقوله "أفضّل رأسمالياً حقيقياً مثله على ثورة كاذبة". وفي مذكراته التي نشرت منذ فترة، كما في حواراته، عبّر أكثر من مرة عن خيبة أمله، بل عن يأسه مما يحدث، وقال عن الثورة الساندينية وإسهامه في قيادتها والتحوّلات التي شهدتها: "هذا الأمر سبّب لي معاناة وآلاماً عميقة، لقد سمَّيت تلك التجربة (الثورة الضائعة)، وهو عنوان الجزء الثالث من مذكراتي. ما تعيشه اليوم نيكاراغوا ليس ثورة، إنه ديكتاتورية فردية لدانيال أورتيغا وزوجته وأبنائه، فدانيال ليس من اليسار، وهو ليس ساندينياً، لقد خان الثورة". لكن ماذا عن علاقة كاردينال، بكاسترو وتشافيز؟ هل كان قوله الشعب الكوبي "غنيّ بفقره"، تهرباً من الحديث عن القمع في النظام الكاستروي؟ 

الشِّعر
عن تجربته الشعرية يقول كاردينال "لقد بدأتُ كتابة الشعر عندما كان عمري حوالى أربع سنوات. وبعبارة أخرى، كنتُ دائماً أكتب الشعر"(حوار مع مجلّة "كومونويل" الأميركية). ويحدد الشِّعر الذي يكتبه بأن أهميته "تتأتى من كونه متأثراً بالمحيط الخارجي"، و"من أجل الآخرين، من أجل المهمشين". لقد تأثّر كاردينال بتجارب أساسية في المشهد الشعري الغربي، إلّا أنه كان يريد لشِعره أن يصل إلى الناس جميعاً، وأن يستمدّ موضوعاته من ذاكرتهم البعيدة التي تشترك مع ظروفهم السياسية والاقتصادية الراهنة. لذلك، كتب عن اشتراكية شعوب الإنكا التي أسّست إمبراطوريتها غربي أميركا الجنوبية. وفي أميركا الشمالية، تعمق في دراسة فكر ورؤى والت وايتمان، وإزرا باوند، الذي ترجم أعماله. وكاردينال، المتحدر من أصول هندية حمراء، أعاد كتابة الصلوات الهندية بلغة جديدة، وهو ما ظهر في إحدى القصائد: "لم يكن هناك اسم لسيّد ولا لإمبراطور ولا لقس ولا لزعيم حكومي أو جنرال، الدين كان الرابط الوحيد الذي يحكم بينهم، لكنه كان ديناً مقبولاً بحرّية من الجميع ولم يكن طغمةً فوقهم".
وكاردينال الثوري لم يتوّقّف عن الاحتجاج حتى آخر لحظة من حياته.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها