السبت 2020/03/28

آخر تحديث: 12:31 (بيروت)

ماذا حل بمنازلنا في إثر الكورونا؟

السبت 2020/03/28
ماذا حل بمنازلنا في إثر الكورونا؟
كورونا الشارع
increase حجم الخط decrease
لقد غيّر الحجر الصحي، الذي نعيشه حالياً، معنى منازلنا. إذ أنها، بدايةً، ولأننا مكثنا فيها وقايةً، أو هكذا أجبرنا على الظن، من فيروس كورونا وانتشاره، فما عادت منازل، بل صارت ملاجئ. فها نحن نلجأ إليها، نمضي أوقاتنا داخلها، في انتظار، إما أن يصيبنا الفيروس إياه، أو أن تنتهي ما سميت "الحرب" عليه، والأمران، باحتمال وقوعهما، متعادلان.

هذا التغير، الذي لحق بمنازلنا، لا يظهر، وفي لحظة ما، كناية عن تحولها، سوى لأنه، وإذا صح التعبير، إبداء لمعناها على ما هو من ناحية محددة. ففي حال كانت المنازل هي المحلات التي ننزل فيها، فالملاجئ أيضاً، وبحسب مخيلتنا التي ألفتها وقائع الحرب واخبارها، يتحقق الوصول إليها بالفعل نفسه، أي بالنزول. على هذا النحو، تغير منازلنا إلى ملاجئ لا يساوي سوى زيادة من نزولنا فيها، إطنابنا في النزول، وإطالته. ربما، هنا، لا بد من تذكر تلك العبارة التي وصف بها فرانز هيسيل التسكع كـ"سكن أكثر"، بحيث من الممكن الإستناد إليها للحديث عن اللجوء، في هذا السياق، على أساس أنه "نزول أكثر": أن تكون في الملجأ، فهذا يعني أنك في المنزل، الذي كثر نزوله بالتوازي مع إكثار نزولك فيه. وبطريقة أخرى: المنزل ينطوي على كونه ملجأ، كل منزل هو ملجأ، ولا يتكشف هكذا سوى بفعل إكثارك من النزول فيه.

يبدي تغير المنازل إلى ملاجئ معناها، وبالفعل نفسه، يبدله. أول تبدله أنه، وكمنازلنا بالتحديد، يبدأ بالإنحسار، وهذا، في صعيد بعينه، من الممكن إيضاحه بالإرتكاز على مبحث بينوا غوتز، الذي ميز بين قطبي الـ"oikos" والـ"poros": الأول هو المأوى والمأمن، والثاني هو الدار والممر. لا يمكن للمنازل، وبحسب غوتز، أن تقوم سوى بالقطبين، بحيث تكون بيوتاً، وفي الوقت نفسه، منافذ، أي أنها تجعلنا على علاقة مع داخلها، وفي الوقت نفسه، تتيح لنا أن نعبر منه إلى خارجها. فحين لا نعود، وفي إثر حجرنا، قادرين على مغادرتها، ونغدو عالقين فيها، تفقد قطباً من قطبيها، تفقد الـporos ، وتستوي على الـoikos، نصير في مأوى من دون دار، في مأمن من دون ممر، وسرعان ما يصير المأوى والمأمن مجرد مطرح مقفل، شبيه بحبس غير معلن.

فعلياً، لا مناص من الاشارة الى أن الحجر، وحين جعل منازلنا على هذا المنوال، منوال البيت من دون منفذ، شيدها مثلما أرادها العمران النظامي، المتفاقم بحداثته، بما هو عِمارة وطريقة عيش. إذ تصير، كمبناه الراهن، مبنى أثريائه على وجه الدقة، الذي ينعزل عن نطاقه، بحيث يوفر لسكانه كل ما يحتاجونه فيه، من المتجر إلى النادي الرياضي. وبالتالي، من المتاح لهم أن يبقوا فيه بلا أي حاجة للإنصراف منه، كما لو أنه عالمهم، الذي، ولأنه مغلق عليهم، ولأنه لا يحملهم إلى مطرح غيره، لا يمكن عده عالماً، بل إنه حبس أيضاً، وهو يحتوي على مساجين أحرار في رفاهيتهم.

لكن منازلنا، وإن صارت كذلك المبنى، فهي لا يمكن أن تمعن في تحولها هذا من دون الإقدام على تدمير محرك من محركاته، وهو، وبالنسبة إلى غوتز أيضاً، التباغت. فالمنازل ليست مرادفة للرتابة، للروتين، للجمود. إنما، ولأنها مؤلفة من قطبي المأوى والدار، أي، ولأنها تتيح لنا أن نسكنها، وبالفعل ذاته، أن نستقبل فيها، فهي مفتوحة أمام ما هو ليس فيها سلفاً، ليحل فيها على غفلة: الزوار.
كنا قد أقدمنا، ومنذ زمن بعيد، على استبعاد هؤلاء الزوار، الذين كان في مقدورهم أن يأتوا إلينا فجأةً، ومن دون مواعيد مسبقة. لقد ماتوا، ومن بعدهم، ولد زوار غيرهم، ليكونوا، وبفعل تلك المواعيد، وبفعل الكاميرات أمام أبوابنا، بمثابة مشتبه فيهم، مشتبه في كونهم لا يجيئون إلينا سوى لإزعاجنا، بكونهم لا يدخلون منازلنا سوى لتدميرها، بكونهم يقتربون منا لكي يسلبوا متعنا، وملكياتنا. ولهذا، استقبالنا لهم تراجع، وتمعير، ورحنا نضبطهم، فأنتجناهم كزوار لا يباغتوننا البتة، إنما يلتزمون بشرطنا الأولي، وهي أن يديموا رتابتنا، وروتيننا، وجمودنا، أن يكونوا إيجابيين، وإيجابيين فقط. كما لو أنهم، وفي زيارتهم لنا، يبقون في منازلهم، ولا يزوروننا.

لكن كل الزوار الذين نفيناهم، عادوا اليوم، وبشدة، في شكل الفيروس، في شكل هذا الزائر المرهق للغاية، بحيث أننا لا نعلم أي ساعة سيصل إلينا، ولا إن كان أساساً قد وصل بلا أن نستطيع رؤيته. فهذا الزائر هو هنا، وليس هنا، هو بيننا، وليس بيننا، من دون أي إذن يجتاح منازلنا، ومن دون أي إذن يتركها. كورونا هو رجوع الزوار المطرودين، رجوعهم، لا كمتطفلين، إنما كما تصورناهم حين أقدمنا على طردهم، أي سلبيون. لكنهم، في واقعهم، ليسوا كذلك.
وفي إثر زيارة الفيروس، تستكمل منازلنا تحولها، وهذا، من جهة كونها، ومثلما عرفها غوتز، "ماكينات نظر". فها هي، وحيال الزائر نفسه، قد تعطلت، فلا يمكنها أن تلتقطه، ولا يمكنها أن تتأكد من كونه في حقلها أو لا. كما أنها، وحيال خارجها، بالكاد تجده في مرآها، بحيث أنه صار بعيد، وهذا، ما يمده بالسحر، والجاذبية. إذ نقف على نوافذنا، ومنها، نشاهده، منتظرين توقف نزولنا، ومرددين أن، نهايةً، لا بد من الصعود إليه. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها