السبت 2020/03/28

آخر تحديث: 13:13 (بيروت)

فؤاد. م.فؤاد: الصيني آكِل الوطواط.. إبنٌ وفيٌّ لتاريخنا الطويل(*)

السبت 2020/03/28
فؤاد. م.فؤاد: الصيني آكِل الوطواط.. إبنٌ وفيٌّ لتاريخنا الطويل(*)
دجنا الجرذان ودجنا الطاعون ودجنا المدن.
increase حجم الخط decrease
 (1)
_________
بدأت الأوبئة مع بدء التجمع البشري
حين بدل الإنسان مهنته من قاطف ثمار وصياد متنقل، إلى مزارع مستقر (ولاحقاً إلى بنّاء مدن) ظهرت الأوبئة.
المزارع كان لابد له أن يدجن الحيوانات ليأكلها.
القتلة المتسلسلون الكبار عبر التاريخ البشري؛ الحصبة والسل والجدري والملاريا والانفلونزا جاؤوا جميعاً من الحيوانات التي دجنّاها وجمعّناها، وأنتجناها بأعداد هائلة لإشباع البطون الكثيرة المتطلبة. الحصبة والسل والجدري من الأبقار، الملاريا والانفلونزا من الطيور (الدجاج والبط)، الشاهوق pertussis من الخنازير والكلاب.

الصيني المسكين الذي استمتع بشوربة الوطواط، لم يفعل اكثر مما فعلته البشرية منذ فجرها: اقتراح طبق جديد يضاف إلى الـmenu الممتلىء بشوربات عشرات الحيوانات.
خانتنا هذه الحيوانات التي ربيناها وقتلتنا.
الحيوان الوحيد الذي لم نربّه ولم نأكله، ومع ذلك تجرأ علينا، كان الجرذ الذي نقل لنا الطاعون الذي تسبب في أحد موجاته المتكررة الكثيرة في محو اكثر من 30% من سكان أوروبا في القرن الرابع عشر (يبدو أن فكرة محو أوروبا راودت الجرذان قبل زمن طويل) لكن الجرذ جاء إلى حياتنا حين جاءت المدن.
ثم دجنّا الجرذان ودجنّا الطاعون ودجنّا المدن.
الكوفيد-19 لن يختلف كثيراً عن أسلافه

(2)
ثمة أوبئة في التاريخ البشري، ظهرت فجأة واختفت كما ظهرت بالغموض نفسه، وبين ظهورها واضمحلالها، حُصدت مئات الآلاف من الأرواح.
من هذه الأوبئة الداء المسمى مرض التعرق الانكليزي English Sweating Disease. وهو، من اسمه، كما لا يخفى على اللبيب وصحبه، وباء أصاب الانكليز في موجات متكررة أولها كان في العام 1485 وآخرها بعد سبعين عام. في أحدى هذه الموجات عبر إلى هامبورغ ومن ثم إلى دول الشمال الاسكندنافي وأوروبا الشرقية. نجت منه وقتذاك، فرنسا (باستثناء مينائها الشهير بين اللاجئين الفارين من جحيم أوطانهم: كاليه)، وإيطاليا (وربما الداء الفتاك الذي أصابها بعد خمسمئة عام، كان بسبب الحسد من نجاتها عام التعرق الانكليزي).

لا أحد يعرف من أين جاء المرض، ولا أحد يعرف لماذا اختفى فجأة من دون أن يترك أثراً سوى الفضول لدى الباحثين المتأخرين النباشين في التاريخ.

أعراضه؟ تشبه الكثير من أعراض الأوبئة التي لاتنفك تتكرر- وستبقى؛ قشعريرة باردة وتعب شديد في طور المرض الأول، يليه تعرق حار وغزير جداً (ومن هنا اسمه)، صداع وبعده هذيان، عطش شديد وهبوط عام، خفقان وبعض الآلام... ثم الانهيار قبل زفرة الروح الأخيرة. لا طفح، لا آثار في الجلد، لا دم يبقع الشراشف، أو قيء يلوث الأرضيات. مرض نظيف الملامح، أنيق السمات يليق بالملوك. وهذا ما حدث.

فقد أخذ الوباء معه، في مَن أخذ، أمير ويلز حينذاك، أرثر، وأصاب زوجته كاثرين أراغون (التي نفدت بروحها من المرض والزوج، في أول القرن السادس عشر.. شفى القدير وعافى، امير ويلز الحالي، تشارلز وزوجته الثانية كاميليا).

أختفى المرض في منتصف القرن السادس عشر، بعدما خلّف مئات الآلاف من الضحايا (ليسوا كلهم من سلالات نبيلة). اختفى قبل ظهور الطب الحديث بعلاجاته، ولقاحاته، وأجهزة الـPCR وكمامات N95 المفقودة. اختفى حتى قبل ظهور محطات التلفزيون اللبنانية وبهدلات مذيعيه لمن تسول له نفسه التريض على الكورنيش. اختفى قبل وعاظ "فايسبوك"، وقارعي أجراس نهاية العالم.

اختفى، كما جاء، بخفة وغموض. رفع ياقة معطفه، ونقر طرف قبعته ليخفي عينيه، وانسحب، كما في الأفلام، من الزاوية التي جاء منها. وكما في الأفلام، سيعاود الظهور في جزئه الثاني بعد اكثر من مئتين وخمسين عام، بعنوان: تعرق Picardy.

(*) مدونة نشرها الشاعر والطبيب السوري فؤاد م.فؤاد في صفحته الفايسبوكية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها