الجمعة 2020/03/27

آخر تحديث: 13:08 (بيروت)

ورق تواليت وكتب: خوفنا من الفناء

الجمعة 2020/03/27
ورق تواليت وكتب: خوفنا من الفناء
increase حجم الخط decrease
لوائح طويلة بعناوين كتب للقراءة، رفوف أوراق التواليت فارغة، دعوات لجولات مجانية في المتحف الافتراضي، وتمتلئ صفحات الثقافة بموضوعات عن أفلام نهاية العالم، تحليلات ومقارنات واقتراحات للمشاهدة. المؤسسات المانحة تتيح فرصة لقاءات "أونلاين" مع فنانيها وكتّابها، عروض سينمائية ومسرحيات حسب الطلب، جميعها من بعد. المؤسسة الثقافية تثبت أنها أكثر مرونة من غيرها، قادرة على التأقلم بين يوم وآخر، تبدو جاهزة لعالم من العزلة كما لعوالم بلا حدود، الاثنان سيان، وعجلتها تدور بالحماس نفسه، وربما بحماس أكبر. 

كتّاب صفحات الثقافة معتادون على الوحدة، وربما يفضلونها، هذه هي أيامنا الأفضل فعلاً. جيش من المتخصصين على أهبة الاستعداد، فرصة لاستعراض معارف تم حصدها في وقت السِّلم، زمن ما قبل العزل، كتب عن الوحدة، روايات عن الأوبئة، أدب الكوارث، أفلام خيال علمي، أعمال فنية عن الكوليرا، وقصائد أيضاً عن كل هذا. سلافوي جيجيك، لا يتأخر، يكتب لنا عن الكورونا والرعب وورق التواليت: "إما الاشتراكية أو البربرية"، الشعار نفسه صالح في كل وقت، لا فرصة لالتقاط الأنفاس، أو التفكير أو إعادة التفكير، حالة الطوارئ لا تسمح بأي من هذا.

يوفال هراري، الكاتب الأنجح في قرننا، يكتب مقالاً طويلاً، لـ"فايننشال تايمز"، عن الكورونا ومجتمع المراقبة، مقال طويل حقاً، بلا مقولة واحدة جديدة، ولو حتى ملفقة، أفكار ميشال فوكو التي مُضغت كعلكة لخمسة عقود، يعاد مضغها، لكن بلا متعة هذه المرة. 

"الطاعون" لكامو، اللوائح كلها تقريباً تنصح بهذه الرواية. البعض يحبذ "الحب في زمن الكوليرا" مثلاً، أو روايات من صنف الخيال العلمي لم أسمع بها من قبل. لكن ما معنى أن تقرأ رواية عن الوباء في زمن الوباء؟ أو عن العزلة في العزلة؟ عن الماضي بعدما أضحى حاضراً اليوم؟ عن السجن وأنت في السجن؟ أو عن الخيال بعدما أصبح الواقع؟ أي تعزية ممكنة في هذا؟ أو أي راحة أو إلهام؟ أو حتى تنغيص؟ ما فائدة الكتب، كل الكتب، إن كانت رفوف ورق التواليت في المحال فارغة؟ ألا يجدر بنا أن نجلس ونسجل يومياتنا نحن عن الوباء؟ ربما كنا سنكتبها، لولا أن القراءة أقل إرهاقاً وضرراً بالصحة من الكتابة.

في لحظات الذعر، اندفع الجميع لتفريغ رفوف ورق التواليت، أقسام المنظفات والمطهرات، وأيضاً الكتب. تعلن دور النشر، ارتفاع في مبيعاتها بشكل مدهش. الجميع يخاف الوحدة، أو بالأحرى يخشى مواجهة الصمت، والتحديق طويلاً في الشوارع المهجورة من خلف النوافذ، الفراغ فكرة مخيفة أكثر مما ظنننا.

تواجه الثقافة حيرتها الأولى والدائمة، وتعود إلى سؤالها الوجودي الأكثر عناداً، في لحظة مكثفة من الجزع مغموراً بالخواء: ما نفع الثقافة؟ الترفيه عن الطبقات المتوسطة؟ حشو الفراغ، ملء تلك الساعات القليلة بين العمل، والخلود إلى النوم؟ وماذا حين تستطيل تلك الساعات لتصبح اليوم كله؟ إسباغ معنى على حياة هشة؟ مراوغة حقيقة الفناء؟ تشتيت الانتباه عنها؟

في سلسلة من المحاضرات عن الكتابة، تقول لنا مارغريت آتوود إن الأدب مثل الأساطير والملاحم، وكل صورة أخرى من الثقافة، محاولة لمواجهة الخوف من الفناء، بالنزول إلى عالم الموتى، ومعاينته أو تخيل معاينته، والانتصار عليه، والعودة منه، مرة أخرى إلى عالم الأحياء.

لحظة، يتنازع فيها على مصائرها الاقتصاديون وخبراء الصحة العامة، لا تترك لصنّاع الثقافة الكثير ليفعلوه، غير اقتراح كتب عن الطاعون أو أفلام عن نهاية العالم، أو ربما هذا فقط ما يستطيعون فعله في أي وقت آخر، التظاهر بأن كل شيء على ما يرام، العالم يسير على عادته، الكتب والأفلام وعروض المسارح، ما زلنا نستطيع التجول في المتاحف، حتى وهي مغلقة، التظاهر بأن كل شيء باقٍ، ومستمر، وسيظل إلى الأبد. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها