الخميس 2020/03/26

آخر تحديث: 13:12 (بيروت)

محمد شمس الدين.. وجهه العالق على زجاج باص

الخميس 2020/03/26
increase حجم الخط decrease
خلال السنوات القليلة الماضية، كان الرسام محمد شمس الدين، يتعاطى مع فكرة الموت بنوع من التهكم والمزاح، ولا يتردد في كتابة وصيته في حسابه الفايسبوكي، وإعلان أنه ذاهب إلى الانتحار، إلى درجة أن البعض يصدق مزاحه وتهكمه. أحسب أن "شمس"(هكذا كنا نناديه في جلساتنا)، كان على علاقة صوفية مع الموت، ويتماهى مع قدره كأنه قصيدة يكتبها أو ينبغي كتابتها، أو هو يخزن تحت عينيه حزناً قديماً لم تمحُه الأيام والسنوات، ولم تكن تعنيه وصفات الأطباء بشأن صحته، ولا نصائح الأصدقاء. كان يبتسم لكل شيء ويبحث عن سعادة اللحظة، وفي الوقت نفسه يعتبر أن كل شيء "يدعو إلى الحزن، أما الفرح فهو استثناء وعابر"...
شمس في رحيله (أمس الأربعاء) عن هذه الدنيا، يذكرنا بيوميات أمضيناها وبوجوه كثيرة تعودنا ملاقاتها في مقاهي الحمرا ولياليها، من محمد العبدالله إلى عادل فاخوري ورضوان الأمين وهاروت وموسى وهبة... لقد مضت سنوات، كنا مجموعة كبيرة من الأشخاص، من أرياف ودساكر مختلفة ومتباعدة، نلازم شارع الحمرا ملازمة بيوتنا، نمارس طقوسنا المعتادة وموتنا البطيء وحبنا ونكاتنا و"ثقافتنا" وحزننا وفرحنا. وسرعان ما بدأ المشهد المديني يتبدّل. بيروت ضاقت بناسها، أو بدأت تبحث عن أنماط استهلاكية جديدة، ارتفعت إيجارات الشقق، أقفلت المقاهي القديمة، تحولت النراجيل الشغل الشاغل للمقاهي الجديدة، حتى الوجوه التي كنا نعرفها، راحت تفتش على عوالم جديدة، أناس سافروا وأناس غابوا عن الأنظار أو رحلوا أو وجدوا ملاذاتهم في شوارع على ضفاف المدينة، هذا الى جانب أن بيروت تعرضت إلى انتكاسات عديدة سواء في حرب تموز 2006، أو الأزمات السياسية والتعطيل. هذه الأمور كانت كافية لتجعل محمد شمس الدين يفضل العزلة نسبياً ويقلّص حضوره في المدينة، "تَرَكَ وجهَهُ العِالقَ على زُجاجِ باص/ عادَ إلى أريافٍ"، بحسب الشاعر شبيب الأمين، إذ بات يمضي أكثر وقته في مرسمه في بلاد صور يحاول القراءة الكتابة، وحين يزور المدينة، لا بدّ له أن يمرّ على حانة نايا أو أبو ايلي... يعيش اللحظة مع السيجارة التي لا تنطفئ، وهو في معرضه "مائيات في عين الشمس" بدا كأنه يقدم رثاء لمرحلة كان جزءاً منها، تجلّت فكرة الموت في المعرض وحضرت أسماء رسامين غابوا مثل: رفيق شرف، بول غيراغوسيان، رشيد وهبي ومصطفى الحلاج، إلى جوار أسماء كتّاب وشعراء مثل: بسام حجار، عبد الأمير عبد الله، وعاصم الجندي. بطريقة ما، يبدو شمس الدين، بحسب الشاعر حسين بن حمزة، كمن "يرثي حقبة بيروتية كاملة عبر أشخاص صنعوا ثقافة تلك الحقبة ومزاجها المديني، خصوصاً في شارع الحمرا ومقاهيه ومسارحه". 

محمد شمس الدين اشتهر بحروفياته والنساء الوحيدات المستلهمات من نساء ماتيس، الرسام الذي جعله يعود إلى "الشرق والكتابة والزخرفة، الألوان الزرقاء، والأحمر الجميل، وذاك الفراغ المعبد باللون". وهو تأثر بطقوس رفيق شرف وطريقة الرسم في العتمة. في أوقات كثيرة كنت أظنه اقرب الى الشاعر، وإن كان يرسم بالألوان، أرى لوحاته وتأخذني أكثر نصوصه. وبحسب الناقد المغربي، فريد الزاهي، او قدّر لمحمد شمس الدين ألا يكون فناناً تشكيلياً، لكان شاعراً أو كاتبا. "ذلك هو الإحساس الذي اعتراني وأنا أضع بصري على مجموعة اللوحات التي تنتمي لمتحف فرحات. إنه إحساس ينبع من الفتنة الآسرة التي تمارسها اللغة الأدبية على الفنان إلى الحد الذي يكرس لها اهتمامه بنوع من العشق الدفين الذي تتآلف فيه كتابات الآخرين مع تموجات اللون والشكل". لا يفصل شمس بين الرسم والكتابة. يقول: "نصي المكتوب أحياناً أحسه ممتعاً، يعني أفهمه أكثر.. أكثر من لوحتي، لأني أحياناً أضيح في لوحتي". ولم يكن شمس الدين يكتب فحسب، فهو كان يحب الشعر والشعراء ويختار نصوصهم في لوحاته، سواء محمود درويش او ابن عربي، أو دانتي والمعري...

الجانب الاجتماعي كان حزيناً في سيرة شمس، يكتب حسن البطل في جريدة "الأيام" الفلسطينية أن محمد(شمس الدين) كان جنيناً في بطن أمّه، عندما وافت المنيّة والده، وقبل أن يُكمل الرضاعة من ثدي أمّه في النجف الأشرف، وجد نفسه في كنف جدّه في قرية البازورية، لأنّ أمّه تزوّجت رجلاً آخر.(...) في مطلع شبابه، فكّر محمد شمس الدين أن يصير "ملّا" من خريجي الحوزات في النجف. هناك، كان على مقاعد الدراسة شاب في مثل عمره تماماً، وهو أمين عام "حزب الله"، حسن نصرالله... وفي حوار تلفزيوني مع أحمد علي الزين يقول شمس أنه سافر الى العراق لسبب لم يكن يعرفه، واكتشف أنه كان يريد أن يتعرف على مكان ولادته، وقبر والده وهو مدفون بالنجف. وكان رجلاً توفي في ظروف غامضة، وهو ابن 29 سنة، يضيف: "تعرفت على قبر أبي، وعندما تعرفت عليه، أدركت أني يجب أن أهرب من العراق"... ولاحقاً سافر الى باريس ونال دكتوراه في التصميم.
  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها