الأحد 2020/03/01

آخر تحديث: 11:00 (بيروت)

أصوات أحمد قعبور... بين خبب الخيل وكمنجة الأب

الأحد 2020/03/01
أصوات أحمد قعبور... بين خبب الخيل وكمنجة الأب
فيلم سيد درويش كان محطة مفصلية في حياتي
increase حجم الخط decrease
بين حياة البيت وأهله ونبض الشارع وناسه، وبين زمن وسط بيروت ونوستالجياه وزمن الحرب وجحيمها وأصوات قذائفها، كان لأصوات المدينة وقعها الإيقاعي والموسيقي في ذاكرة الفنان أحمد قعبور... فالفنان الذي عاش في البدايات مع أهله واخوته الخمسة وابناء عمه (الأيتام) في منطقة البسطة التحتا على تخوم وسط بيروت، كانت علاقته بهذا المكان(وسط بيروت) ترتبط أولاً بالعيد ثم بالسينما، التي كان صاحب "علّوا البيارق" مغرماً بها، يأخذ عيدية من والدته ويذهب إلى صالات "روكسي" و"راديو سيتي" و"أمير"، وأحياناً يشترى الثياب من بالات المعرض أو الأحذية من محل الارمني قرب كنيسة الروم، ثم بدأتْ بيروت تكبر في عينه ولم تعد حدودها البيت ومصطبته، العابقة بذاكرة التأمل ورائحة مربى السفرجل، ولا حديقة الحجة آمنة، ولا الخندق الغميق الذي ضاع فيه ذات يوم قرب الكنيسة، ويومها عرف أن الطريق الذي ضاع فيه يودي إلى "البلد".
هكذا تعرف أحمد قعبور الى وسط بيروت من خلال رغبته في متابعة السينما، وفي داخل الصالة كان الصمت أحلى صوت بالنسبة إليه، أما الخارج فهو مزيج من أصوات الباعة وزحمة السوق ومحطات السفر والمقاهي وسينما الكابيتول وساعة الزهور في ساحة الشهداء، كانت محطة خاصة للنازل إلى البلد، يسمع من خلالها النشيد الوطني مثلاً... وبعد مرحلة البسطة التحتا غادر أحمد قعبور مع عائلته الى شارع حمد في الطريق الجديدة، وهناك صار للاصوات محطات اخرى..

يقول أحمد قعبور:
ثمة صوتان عالقان في ذاكرتي السمعية من ذلك المكان، صنعا هويتي الموسيقية، ومزاجي واتجاهي العاطفي... الصوت الأول هو الخيول حين تمشي في الصباح، وقع حوافرهم (خببها) على الاسفلت، فبالقرب من بيتنا على تخوم ارض جلول، كان يوجد اسطبل للأحصنة واندثر... صوت حوافر الخيل كان في غاية الروعة، فيه أيقاع، صحيح أنه رتيب لكنه مريح، ويشكل مصدر سكينة، وكان له علاقة ببداية النهار وطلوع الشمس والضوء وتفتح الاشياء...

الصوت الثاني الذي كان نقيض الأول، ويشكل صوت الوجع والألم، هو صوت سعال والدي محمود الرشيدي. حين كنت صغيراً أسمع سعاله أشعر أنه سيموت، لقد أصابته "صفقة هواء" عندما كان يزور فلسطين، وباتت رئتاه تخزنان الماء الذي يشكل مصدر ألم دائم وسعال لا ينتهي. أحياناً كنت أخرج من البيت هرباً من سعاله إلى حرج بيروت بالقرب من بيتنا، أتمدد على "السيكون"(اوراق الصنوبر)، انظر إلى السماء على وقع صوت زيز الصنوبر... وثمة أصوات في حرج العيد تمثلت في المهرجانات التي كانت تقام كل سنة، وتعرفت عليها في نهايتها، كانوا يأتون بفرق من مصر والصين... وفي هذه المرحلة، في الستينيات، كانت بدايات التعرف إلى التكنولوجيا من خلال "الفيسبا"، وجربته وقد اصطدمت بالحائط والشجرة...
الصوت الثالث كان صوت كمنجة والدي، فهو من قدماء عازفي الكمنجة في بيروت. وحكاية الكمنجة جميلة بامتياز اتمنى لو أكتب عنها أو أقدمها مسرحية ذات يوم... عمي محمد كان ضريراً وعازف عود، يعلم نساء الذوات طرق العزف، وبحكم أنه أعمى كان يسمح له الدخول الى صالوناتهم وبيوتهم... أبي كان دليله، ومن خلاله تعرف على أصول المقامات، اشتروا له عودا فزحط في حضنه لأنه كان قصيراً، فاشتروا له كمنجة... جلب له عمي أحمد، الذي سميتُ على اسمه، مجموعة اسطوانات الملحن سامي الشوا، فصار يسمع ويعزف ويقلّد إلى أن تعلّم، وهو بطبعه كان مؤثراً وزاهداً، حين كان يسمع القرآن قبل الاذان كان ينبهني الى المقامات.
هناك الكثير من الأصوات لها وقعها في ذاكرتي منها المسحراتي الذي استوحيت منه أغنية "علّوا البيارق"، وصوت بائع العناب على العربة، اسمه محمد البنا ينادونه "محمد الفقير" ينادي بإيقاع مميز "هدايا... للأحباب... يا عناب"، كان فقيراً ويعطي العناب مجاناً للأولاد. وهناك بائع آخر ينادي "في تمر... في جوز"(كعك)، وبائع "السردين"، وبائع الكعك الذي لا بدّ أن يقول "كعك... كعك"، حتى يكتمل الايقاع.

والصوت الذي لا ينسى هو صوت البوسطة القديمة، خصوصاً عندما تكون في رحلة الى الجبل ورويسات صوفر، حيث كنا نزور بعض الاقرباء في مكان اصطيافهم، عندما كانت تعود على طريق صيدا القديمة إلى بيروت، كنت أشعر أني في طريقي الى الجنة، فالأمكنة الأخرى كنت ضيفاً فيها. زمور البوسطة ومحركها ومسيرها كل شيء فيها يعلق في الذاكرة، خصوصاً على إيقاع أغاني فهد بلان وسميرة توفيق...

في المظاهرات، كنت من اوائل الهتيفة، ثمة مظاهرة "عملتها على حسابي" في العام 1972. كنت في لجان العمل الطلابي وفي دار المعلمين، قررنا تنظيم مظاهرة طيارة لها علاقة بالتضامن مع عمال غندور على ما أذكر، المظاهرة عبارة عن تجمع ويصرخ أحدهم "وبقلب المصنع" ويرد المتظاهرون "يا حرية"، وقتها ذهبت الى شارع الحمرا، كانت من المرات القليلة التي ازوره وأكتشفه وفوجئت بمقاهيه وصالاته وناسه، كان من المفترض ان يقف شخص قبالة مقهى "الهورس شو" ويهتف "وبقلب المصنع"، لكن الشاب لم يحضر، فلجأت إلى الهتاف بدلا منه بمبادرة وحماسة مني، ولم أكن أعلم أن المظاهرة ألغيت وشعرت بالخجل و"يا أرض انشقي وابلعيني".

أصوات الحرب في ذاكرتي حدث لا حرج، والصوت الذي لم يخرج من رأسي حتى الآن، صوت قذيفة الهاون التي سقطت قرب فرن "الوفاء" في محلة ابي شاكر(الطريق الجديدة)، وقتل فيها الرسام ابراهيم مرزوق. كنت حصلت على رقم من اجل الوقوف بالطابور وشراء ربطة خبز، في لحظة سمعت صفير القذيفة وانفجارها وتطاير بعض الاشخاص أشلاء، بقي رقم الفرن معي حين عدتُ إلى البيت، لم أكن أعرف سعيد مرزوق لكن قرأت عنه ورأيت صورته في الجريدة...
ثمة محطة مفصلية في حياتي وهي فيلم "سيد درويش"*، شاهدته في سينما "أمير" في رياض الصلح، كنت في العاشرة أو أكبر بقليل، هذا الفيلم دلني أو أرشدني إلى الطريق الذي أحبّ أن أمشي عليه، عرفني على سيرة سيد درويش وأغنياته، موسيقاه، مواقفه البسيطة، تمرده، وعشقه ومؤثراته...

المحطة الاخرى كانت في مدرسة الايمان الشهيرة بمبناها وانارتها، وقد دمرها الطيران الاسرائيلي اثناء الاجتياح 1982 بعد مرور الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات فيها، في هذه المدرسة اكتشف عازف البيانو سليم فليفل صوتي وتتلمذت على يده.  


(*) يتناول الفيلم قصة حياة سيد درويش منذ طفولته وحتى وفاته مرورا بوطنيته خلال أحداث ثورة 1919 وقصة حبه بالراقصة جليلة، وقد نال الفيلم جائزة أحسن فيلم من مهرجان المركز الكاثوليكي في مصر في عام 1967. وشارك في تمثيله كرم مطاوع: (سيد درويش)، هند رستم: (جليلة)، أمين الهنيدي: (عباس)، زيزي مصطفى: (حياة)، فتوح نشاطي: (سلامة حجازي)، ناهد سمير: (والدة سيد درويش)... إلى جانب دور لعادل إمام.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها