الأربعاء 2020/02/26

آخر تحديث: 11:21 (بيروت)

ملحون2.0: الشاهد الذي نسي مفاتيحه

الأربعاء 2020/02/26
increase حجم الخط decrease
"إنّ التشييد والبناء، كل على نحوه، هما دائماً حتميّان وضروريّان بالنسبة للسّكن. ولكنهما، علاوة على ذلك، غير متاحين له، فلطالما تفرغا لشؤونهما بانفصال، عوضاً عن أن يصغي كل واحد للآخر. إنّ الإصغاء بينهما ممكن إذا كانا معاً، أي التشييد والتفكير، جزءاً من السّكن، وأن يظلاّ في حدودهما وأن يَعِيَا أنّ الأول مثل الثاني، يخرج من ورشة تجربة طويلة ومن ممارسة مستمرّة".
(التشييد السّكن التفكير، عن محاضرة ألقاها هيدغر 1951 في دارمشتات الألمانية).

عندما اقترحَ عليّ القيّم الفنيّ، فيليب ڤان دِنْ بوش، تكريسَ نصٍّ لمعرض ملحون 2.0(*)، فكّرتُ في البداية أنْ أتحدّث عن هذا الدور الذي أوْكَلَتْهُ إليّ الجماعة كشاهدٍ، إلى جانب شهود مختلفين، أي أن أتناول علاقتي بالمؤلفين المشاركين، كما عرفتهم أو خَبِرْتُ عنهم، عن طريق السّمع والمشاهدة، لكني تردّدتُ وخشيتُ أن تتحوّل شهادتي إلى نوعٍ من التدليس التأويلي والفذلكة الشخصية. هكذا اضطررتُ بدوري إلى استدعاء شاهد آخر والاحتجاج به؛ فالشهادة سلسلةٌ من العلائق المُركّبة والمرتبكة، لا تؤمن بالقطائع، وإنّما تحتفي بالتناسل والاتصال في الغياب المستحيل. تذكّرتُ، في خضمّ هذا المأزق الذي كبّلني، إنّ ما قد يجمع الأقوالَ بالأفعالِ هو الشدو الممتدُّ على طاولة القضاء. فعادت إلى ذهني حينئذٍ قصيدةُ الدُّملُج (الدّمليج، في العامية المغربية) التي نظمها الشاعر الشعبي محمد بن أحمد المدغري، وارتبطت بالأداء المحبوب للحاج الحسين التولالي (1928-1998). ها هي تُحيط بمعصمي، ابتداءً من الآن وحتى نهاية القضية، مثل من تستدعيه العدالة لإقامة الدّليل، من دون أنْ يقوى على إخراج المفتاح من جيبه. فهل على الشّاهد أن يكون حاضراً؟ معاصراً؟ أم أنّ غيابه المكاني واستعصاءه الزمني يجعلان منه عائداً ضروريّاً للكشف عن حقيقة مفترضة؟


السرابة
في هذا العرض/المعرض، يرجعُ طيفُ الحسين التولالي، وإلى جانبه محمد المدغري، حتّى أنهما يصيران شاهدين أساسيّين لا يكتمل سعينا لكتابة بيوغرافيا اجتماعية للفن في المغرب من دون الإصغاء لأقوالهما المُجملة في قصيدة الدّمليج. يتعلق الأمر، في هذا النص، بدليل خرائطيّ، موسيقيّ وهندسيّ، شعريّ وسرديّ في آن، يحتفي بالصّنعة من دون أن ينطق بها، ويصف حقبة تاريخية نحاول فتح بابها من داخل القصيدة. لكن، في البدء، من يكون التولالي؟ يبدو الاسم مألوفاً عند عشّاق فن الملحون، المعروف كذلك باسم «العلم الموهوب»، باعتباره واحداً من الحُفّاظ والموسيقيين المُجدّدين لهذه الحرفة اللطيفة. ولد التولالي، كما تَدُلّ كنيته، في منطقة تولال ناحية مدينة مكناس، وانتمى إلى عائلة اهتمّت بزراعة الورود. وهي منطقة معروفة أيضاً بكروم العنب وبنبيذها الشهير، واسع الاستهلاك، الذي يحمل اسم صاحبنا نفسه. تُلخّص لنا هذه الأرض التي ولد فيها التولالي، ثم سكنها وسكنته، السّكرة الجمالية التي سترافقه طوال مشواره، وهي السّكرة ذاتها التي خرج باحثاً عنها في فاس وهو يؤدي الدّمليج: إنّ هذه القصيدة إذن تشييدٌ وتفكير في الآن نفسه، بناءٌ وإقامةٌ، فعلٌ وخيالٌ، وتركيبٌ حالمٌ لما كانت عليه الأشكال الاجتماعية والفضاءات المدينيّة المغربية...

لا ندّعي ههنا تحليل قصيدة الدّمليج، وإنما نستعرض حواراً متشظياً، داخل أحداثها السردية وأمكنتها، مع الجسد المتخيّل لحبيبة الشاعر وزينتها المفقودة. يقول الجاحظ في كتاب البُرصان والعرجان: "وأوّل الشروط التي وُضعت في أعناق الأطباء سَتْرُ ما يطّلعون عليه في أبدان المرضى، وكذلك حُكم من غَسَّلَ الموتى". العهد الذي يضعه الجاحظ في أعناق الأطباء وغسّالي الموتى يسري كذلك على الشاهد، لكنه في حالة الشاهد عهدٌ بالكشف لا بالسّتر. يحلف الشاهد أن يقول الحقيقة، لا أن يخفيها. فلنسمع/نقرأ مطلع القصيدة:

"دمليج زهيرو صابغ الشفر كان فجيبي يا أهل الهوى ومشا ليا،
باش نجاوب إلى تسال عنو تاج الغزلان".

مطلع القصيدة هو البداية والتوجيه، أي ما يضعنا على سبيل التيه اللذيذ منذ الأبيات الأولى. يتبدّى تضييعُ الدملج كعقدة، كفعل غير مسؤول من طرف العاشق، بل يصير إشكالية وورطة، يختلط فيها القانون بالرغبة، كما لو كانت استعارةً للأكل من شجرة المعرفة ثم الخروج من الجنة. فالعاشق يعرف جيّداً الدملج الضائع، فقد كان في جيبه، لكن معرفته به واحتفاظه به مخبئاً، لم يحمِه من الضياع. وسط هذه المفارقة التي ينظمها لحنٌ سحيق على أرضٍ متخبّطة بين التقليد والتحديث، بين تاريخ مُلتبسٍ وراهن مشتبك. عند هذا الالتباس والاشتباك، يطفو التوتر الطارئ بين الفنون المعاصرة والصّنائع المحلية؛ توترٌ يحاول معرض ملحون 2.0 فكّ لغزه. فالملحون نفسُه يطرح إشكالية تعريفية كصنعة وفن في الوقت نفسه، ويصير نقطة اللقاء بين عالم الأفكار وأفعال اليد، كما أنه يُجسّد تماهي التِّقانة، مع البراكسيس، بعيداً من التعارض الأرسطي، كما نقف عليه في كتاب Éthique à Nicomaque.

التيه
نحن لا نعرف عنوان صاحبة الدملج الضائع، ولا نملك وصفاً لملامحها، ولن ندرك شكل دملجها إلاّ إذا تعقّبنا أثر حرفة الصياغة في تلك الحقبة. يُمكننا جمع دُملج، في العامية المغربية، على دْمَالَجْ. وقد شاع استعمال الكلمة لاحقاً بمعنى الأصفاد. يبدو الشاعر، في تيهه وبحثه عن حاجته المفقودة، مُقتاداً ومُصفّداً، ونحن معه. وكما هو الحال مع خاتم الزواج، الذي يسمّى المِحبس في العربية، يضحي الدملج الضائع بمثابة وَثاق ساحر، يضعنا عبر تردّدات الصوت داخل ارتجاجات صورة المغرب الأقصى كما أرّخت له الأدبيات الكولونيالية، مُبعِدةً شهاداتِ أهله على أطراف الصيغ الرسمية للتاريخ الحديث. يفقد الشاعر إذن دملج عشيقته زهيرو، ويتوه في المدينة بحثاً عنه، بين عدوتي القرويين والأندلس. يُنشدُ:

"فَتّشْتْ على الدَّمْلِيجْ يَالْفَاهَمْ في الدُّوحْ ولا جبرت من يصغى ليا
ودخلت على صلاج كنفتش وانا ولهان
ما صبت من اعطاني خبار ولا من شافو يا رجيح فأحضان صبيا
وبقيت على الدمليج كنسول سرو يعلانّ".


هكذا، كلما تحرّر القول وساح النظم، تعمّق تيه العاشق بين أحياء المدينة، وفي الأقاليم والبلدان البعيدة التي سمع عنها من دون أن يزورها، كأنه يشرح لنا لوعته وحيرته داخل الحياة الاجتماعية والثقافية حينذاك، من خلال المشي المتهور واللعب الخاسر، على طريقة مُتسكّع المدن الأوروبية، الذي وضعه والتر بنيامين في قلب الحداثة الغربية، والذي يسير من دون أن يعرف وجهته. هذا ما يظهر في القصيدة:

"دمليج زهيرو غاب مبان وبقيت من فراقو مهموم حزين
ما تشاف مثيلو فيد سلطان عند العرب ولا فالهند وصين
دمليج لا يوجد فمكان فالروسيا ولا فخزين ستالين
دمليج الموضة يا فهيم من ذهب الصين وجا لتاج البنات هديا
صنعو ماهر ذوقي لبيب وحكيم من اليونان".

لا يبقى الشاعر محصوراً في المجال الطبيعي للملحون، الممتد من تلمسان إلى فاس ومكناس، وحتى مرّاكش، بل يذهب للحديث عن الهند والصين، ويُحدّثنا عن ستالين، ديكتاتور روسيا (الشيوعية)، وعن خزائنه التي تعجز عن امتلاك دملج يماثل دملج زهيرو في دقة صنعته. بل إنّ مال الأميركيين (الرأسمالية)، كما تقول القصيدة في موضع آخر، يعجز عن شراء هذا الدملج. إنّ الحرفيّين، على ما يبدو، كانوا يعرفون اليونان وستالين وحكايات إشبيلية، كما كانوا يخبرون قصص الهند والصين، أي أنهم كانوا منفتحين على ثقافات متعددة، وذلك على عكس ما حاول جزءٌ من الطبقة الدينية والسياسية تكريسه من تراتبية معرفية، تقدم المشتغلين بالحِرَف التقليدية كطبقة جاهلة ومسلوبة الفكر.

من السينما إلى الحديقة
بعد رحلة مُضنية في متاهة فاس اللامتناهية، يلتقي العاشق شابتين أمام سينما حومة بوجلود. تدّعي الفتاتان معرفة موضع الدملج، لكنهما لا تخبرانه به في الحين. باب السينما هو موضع البوح، المكان الذي تلتقي فيه الروايات الشفهية بالصورة المشهودة والمتحققة للشيء المُهدد بالزّوال... بيد أنّ الفتاتين امتنعتا عن القول في الحين. إثم بلا جُرم، وجرم بلا إثم. فهاتان الشاهدتان، مثلي ومثلكم، متهمتان، وستبحثان عن شاهد يقدم عناصر براءتهما. يتحقق الإيجاد إذن باعتباره حدثاً يكتمل في المحادثة مع هاتين الشاهدتين. يصف العاشق اللقاء بلوعة شجنة:

"ومشيت معزم يا فهيم فتشت احواز الطالعة وناري مڭديا
فطريق السنيما لقاوني زوج بنات ڭران
شافوني ناس الحب كنسول قالو مالك روح ذاتك مهديا
قلت مشا لي دمليج من فراقو عقلي هيمان".

تضربُ الفتاتان موعداً مع العاشق في حديقة جنان السبيل، الواقعة بين فاس البالي وفاس الجديد، وتجعلان موعد اللقاء الجمعة المقبل، كأنهما تُعتّقان تيهه وانتظاره، مثل نبيذ تولال المرير، في إيماءة إيروتيكية مثيرة. ثم تصف العذراوتان (كما يسمّيهما هو)، في موضع آخر، المرأة التي عثرت على الدملج يوم زيارة السلطان للمدينة، وتتحدثان عن سيّدة هيفاء وبرڭية... لكن الشهادة، تبقى ادّعاءً تتستّر خلفه حقائق وأسرار يُعرّيها الزمان.
تقولان:

"أجينا لجنان السبيل قدام الصّهريج الجديد وقت الذهبيا،
تم رجانا ولاّ تصيبنا نرجاوك يعلان"

يبرُزُ من البيت الأول أن الصهريج المتواجد في حديقة جنان السبيل كان حديث العهد بالبناء وقت كتابة القصيدة. وهي واحدة من مميزات الملحون، فقد كان دائماً وثيقة تأريخية للعمران، وذلك ما أهملته المتون الرسمية... عندما يبلغ العاشق موعده، تحاول الفتاتان، رفقة المرأة الثالثة، غوايته عبر دعوته لليلة خمريّة، لكنه يعتذر ويكتفي باسترجاع الدملج، ويعود مهرولاً نحو حبيبته، مكتفياً بشرب كوكا كولا عوضاً عن الخمر. كذلك ينتشي ويرتاح في حضن زهيرو، ناجياً من حيلة النساء اللواتي أرَدْنَ الإيقاع به في أنهار النبيذ الغدّار.

لقد ادّعى بعضُ من عرفوا الشاعر أحمد المدغري، والبيّنة على من ادعى واليمين على من أنكر كما جاء في الأثر، رواية عجيبة عن أصل القصيدة: كان المدغري قد كلّفَ في أحد الأيام المَتْعلّمْ الذي كان يأخذ عليه الحرفة، بالذهاب إلى فَنْدَقْ يقع بحومة باب السنسلة لشراء مكنسة. وقتها، كانت المكنسة عبارة عن كومة من الدُّوم يربطها دُملج معدنيّ عند طرف عمود خشبيّ، وتسمّى عندنا بـ"الشطابة". في طريق عودته إلى المشغل، بقي المَتْعَلّمْ الصغير، مثل العاشق التائه، يلعب بالشطابة حتى أضاع دملجها. وعندما أخبر المْعَلّم المدغري بما حدث معه، ضحك المْعَلّمْ ونظم عقب ذلك هذه القصيدة التي جعلت منّي شاهداً نسي مفاتيحه بين نهديّ شاهدة أخرى ضاعت في ثنايا النّظم الجليل: يارا. يارا، بنت النبطية، ساكنة الأشرفيّة.

(*) المعرض الجماعي ملحون 2.0 هو مسودّةُ مشروعٍ أكبر ينبني على لقاءاتٍ بين حرفيّين وفنّانين ومؤلّفين ومفكرين في مرّاكش. يتعلّق الأمر بسيرورة متجذرة في السياق الاجتماعي والاقتصادي والفني المغربي، تُلملم التاريخيّ والمعاصر. يستمر المعرض الحالي من 14 فبراير حتى 31 مارس 2020 بزنقة طارق ابن زياد (مرّاكش).

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها