هكذا، كلما تحرّر القول وساح النظم، تعمّق تيه العاشق بين أحياء المدينة، وفي الأقاليم والبلدان البعيدة التي سمع عنها من دون أن يزورها، كأنه يشرح لنا لوعته وحيرته داخل الحياة الاجتماعية والثقافية حينذاك، من خلال المشي المتهور واللعب الخاسر، على طريقة مُتسكّع المدن الأوروبية، الذي وضعه والتر بنيامين في قلب الحداثة الغربية، والذي يسير من دون أن يعرف وجهته. هذا ما يظهر في القصيدة:
"دمليج زهيرو غاب مبان وبقيت من فراقو مهموم حزين
ما تشاف مثيلو فيد سلطان عند العرب ولا فالهند وصين
دمليج لا يوجد فمكان فالروسيا ولا فخزين ستالين
دمليج الموضة يا فهيم من ذهب الصين وجا لتاج البنات هديا
صنعو ماهر ذوقي لبيب وحكيم من اليونان".
لا يبقى الشاعر محصوراً في المجال الطبيعي للملحون، الممتد من تلمسان إلى فاس ومكناس، وحتى مرّاكش، بل يذهب للحديث عن الهند والصين، ويُحدّثنا عن ستالين، ديكتاتور روسيا (الشيوعية)، وعن خزائنه التي تعجز عن امتلاك دملج يماثل دملج زهيرو في دقة صنعته. بل إنّ مال الأميركيين (الرأسمالية)، كما تقول القصيدة في موضع آخر، يعجز عن شراء هذا الدملج. إنّ الحرفيّين، على ما يبدو، كانوا يعرفون اليونان وستالين وحكايات إشبيلية، كما كانوا يخبرون قصص الهند والصين، أي أنهم كانوا منفتحين على ثقافات متعددة، وذلك على عكس ما حاول جزءٌ من الطبقة الدينية والسياسية تكريسه من تراتبية معرفية، تقدم المشتغلين بالحِرَف التقليدية كطبقة جاهلة ومسلوبة الفكر.
من السينما إلى الحديقة
بعد رحلة مُضنية في متاهة فاس اللامتناهية، يلتقي العاشق شابتين أمام سينما حومة بوجلود. تدّعي الفتاتان معرفة موضع الدملج، لكنهما لا تخبرانه به في الحين. باب السينما هو موضع البوح، المكان الذي تلتقي فيه الروايات الشفهية بالصورة المشهودة والمتحققة للشيء المُهدد بالزّوال... بيد أنّ الفتاتين امتنعتا عن القول في الحين. إثم بلا جُرم، وجرم بلا إثم. فهاتان الشاهدتان، مثلي ومثلكم، متهمتان، وستبحثان عن شاهد يقدم عناصر براءتهما. يتحقق الإيجاد إذن باعتباره حدثاً يكتمل في المحادثة مع هاتين الشاهدتين. يصف العاشق اللقاء بلوعة شجنة:
"ومشيت معزم يا فهيم فتشت احواز الطالعة وناري مڭديا
فطريق السنيما لقاوني زوج بنات ڭران
شافوني ناس الحب كنسول قالو مالك روح ذاتك مهديا
قلت مشا لي دمليج من فراقو عقلي هيمان".
تضربُ الفتاتان موعداً مع العاشق في حديقة جنان السبيل، الواقعة بين فاس البالي وفاس الجديد، وتجعلان موعد اللقاء الجمعة المقبل، كأنهما تُعتّقان تيهه وانتظاره، مثل نبيذ تولال المرير، في إيماءة إيروتيكية مثيرة. ثم تصف العذراوتان (كما يسمّيهما هو)، في موضع آخر، المرأة التي عثرت على الدملج يوم زيارة السلطان للمدينة، وتتحدثان عن سيّدة هيفاء وبرڭية... لكن الشهادة، تبقى ادّعاءً تتستّر خلفه حقائق وأسرار يُعرّيها الزمان.
تقولان:
"أجينا لجنان السبيل قدام الصّهريج الجديد وقت الذهبيا،
تم رجانا ولاّ تصيبنا نرجاوك يعلان"
يبرُزُ من البيت الأول أن الصهريج المتواجد في حديقة جنان السبيل كان حديث العهد بالبناء وقت كتابة القصيدة. وهي واحدة من مميزات الملحون، فقد كان دائماً وثيقة تأريخية للعمران، وذلك ما أهملته المتون الرسمية... عندما يبلغ العاشق موعده، تحاول الفتاتان، رفقة المرأة الثالثة، غوايته عبر دعوته لليلة خمريّة، لكنه يعتذر ويكتفي باسترجاع الدملج، ويعود مهرولاً نحو حبيبته، مكتفياً بشرب كوكا كولا عوضاً عن الخمر. كذلك ينتشي ويرتاح في حضن زهيرو، ناجياً من حيلة النساء اللواتي أرَدْنَ الإيقاع به في أنهار النبيذ الغدّار.
لقد ادّعى بعضُ من عرفوا الشاعر أحمد المدغري، والبيّنة على من ادعى واليمين على من أنكر كما جاء في الأثر، رواية عجيبة عن أصل القصيدة: كان المدغري قد كلّفَ في أحد الأيام المَتْعلّمْ الذي كان يأخذ عليه الحرفة، بالذهاب إلى فَنْدَقْ يقع بحومة باب السنسلة لشراء مكنسة. وقتها، كانت المكنسة عبارة عن كومة من الدُّوم يربطها دُملج معدنيّ عند طرف عمود خشبيّ، وتسمّى عندنا بـ"الشطابة". في طريق عودته إلى المشغل، بقي المَتْعَلّمْ الصغير، مثل العاشق التائه، يلعب بالشطابة حتى أضاع دملجها. وعندما أخبر المْعَلّم المدغري بما حدث معه، ضحك المْعَلّمْ ونظم عقب ذلك هذه القصيدة التي جعلت منّي شاهداً نسي مفاتيحه بين نهديّ شاهدة أخرى ضاعت في ثنايا النّظم الجليل: يارا. يارا، بنت النبطية، ساكنة الأشرفيّة.
(*) المعرض الجماعي ملحون 2.0 هو مسودّةُ مشروعٍ أكبر ينبني على لقاءاتٍ بين حرفيّين وفنّانين ومؤلّفين ومفكرين في مرّاكش. يتعلّق الأمر بسيرورة متجذرة في السياق الاجتماعي والاقتصادي والفني المغربي، تُلملم التاريخيّ والمعاصر. يستمر المعرض الحالي من 14 فبراير حتى 31 مارس 2020 بزنقة طارق ابن زياد (مرّاكش).
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها