مرحباً بك في الباراغواي:حدود ثلاثية..وذكريات لبنانية وسورية

كان الوقت قبل منتصف الليل بقليل، حين وصل الباص إلى الحدود الثلاثية، النقطة حيث تتلاقى أراضي الأرجنتين والبرازيل والأوراغواي. حاولت أن أبقى متيقظاً طوال الرحلة. كتيب الإرشاد السياحي ينصح المسافرين بالتأكد من ختم جوازات سفرهم في نقاط الهجرة للدول الثلاث، ذهابا وإياباُ، وإلا تعرضوا للمشاكل. يتوقف الباص وينزل الركاب لختم جوازاتهم، لكن أحداً لا يخبرك بشيء، يبدو الأمر اختيارياً. بعض الركاب بقوا نياماً في مقاعدهم، وعبر بهم الباص لاحقاً، الحدود بدتْ مفتوحة. في طابور نقطة الهجرة، رجل ظهرت عليه علامات النعاس يفشل في إثبات تاريخ دخوله للأرجنتين، وتكتفي شرطية الهجرة بتوبيخه، ويتكرر الأمر معه على حدود البرازيل، وبعدها في الباراغواي، دقيقتان من التوبيخ كل مرة.

الأمر مدهش، كيف لخطوط الحدود الوهمية أن تكون راسخة إلى هذا الحد وهشة بالدرجة نفسها؟ خطوة واحدة فوق الخط، وتنقلب الإسبانية إلى برتغالية، الموسيقى أكثر صخباً في الجانب البرازيلي، الأسطح تلمع بشكل حاد. رجال الشرطة ضخام الجثة، ينظرون في اتجاه المسافرين بتنمر غير مفهوم. أمتار قليلة، ونصبح في الباراغواي، البرتغالية تنقلب إسبانية مرة أخرى، لكن بلهجة شديدة الاختلاف، الموسيقى تصمت تماماً، هدوء وظلام حالك بنكهة ريفية، أفراد الشرطة ودودون بابتسمات واسعة وصادقة. في الحقيقة، الفواصل ليست بكل هذه الحدة، إذ يتفاهم الجميع بخليط من الإسبانية والبرتغالية والغوارانية (لغة السكان الأصليين)، البعض يسكن في جانب من الحدود ويعمل في الجانب الآخر، فيما يدرس أولاده في جانب ثالث. كان معنا راكبة ببطن منتفخة وأسرتها، عبروا ليلتها حتى تلد في البرازيل، المشافي هناك أفضل، هذا ما قالوه.

في العام 2007، صرح أحد مسؤولي البنتاغون، بأن منطقة الحدود الثلاثية هي أكبر قاعدة لعمليات "حزب الله" خارج لبنان. ادّعت إدارة بوش بأن الحزب متورط في عمليات واسعة لغسيل الأموال وتهريب الكوكايين وتجنيد شبكة خطرة من المتعاطفين، وكانت ضغوط من الحكومة الأميركية قد أرغمت الباراغواي على القبول بوجود قوة من بضع مئات من الجنود الأميركيين، لمراقبة المنطقة، لكن لم يُجدّد لبقائها لاحقاً.

بعد عبور نقطة الحدود الثالثة والأخيرة، يافطة معدنية كبيرة تستقبل المسافرين، "مرحباً بك في الباراغواي"، مكتوبة بأربع لغات؛ بالإسبانية والبرتغالية والإنكليزية والعربية. لم يكن الأخوة داموس الثلاثة، وحدهم هنا، للمهاجرين العرب تاريخ طويل في منطقة الحدود الثلاثية. في رحلة الباص إلى العاصمة أسنسيون، أقرأ بشكل عابر عن مطرب وملحن باراغواني من أصل لبناني، أوسكار صفوان، عمل في ملاهي البرازيل الليلية لبعض الوقت، وحقق شهرة معقولة هناك، قبل أن يعود إلى الجانب الآخر ليحيي الموسيقى الفولكلورية الباراغوانية التي عكف على دراساتها وإعادة انتاجها.

في يونيو الماضي، رحّلت السلطات الباراغوانية، المواطن اللبناني، نادر محمد فرحات، إلى الولايات المتحدة، ليحاكم بتهم غسيل الأموال وتجارة المخدرات لصالح "حزب الله". على مشارف العاصمة أسنسيون، تمر تفاصيل القضية في ذهني، تبدأ العلامات الأولى للنهار في الظهور على الحقول المنبسطة بأشجارها الاستوائية على جانبي الطريق، ويبدو كل شيء مدهشاً. كيف لذلك المكان أن يكون بعيداً منا إلى هذا الحد، وقريباً منا جداً أيضاً؟

عندما كان أبناؤه أو أحفاده يسألونه عن حياته في قريته ملكي في سوريا، كان سيمون دانيال يتجنب الكلام أو يسكت. لم يعجبه الكلام عن تلك الفترة، أو عن سفره صغيراً إلى الباراغواي، مع ابن عمه جورج وعمه جون دانيال، هرباً من الحرب العالمية الأولى. محتمل أن سبب سكوته عن هذا السفر الذي قطع به نصف العالم، هو ألا يتذكر قصصاً حزينة عن عائلته الكبيرة. يُبقي لنفسه ذكريات تلك الأيام الغامضة والخوف، عندما ألقى الشباب بأنفسهم إلى البحر بحثاً عن حياة أفضل. 

(الوحيد الباقي على قيد الحياة من عائلته، متحف الهجرة إلى الباراغواي، أسنسيون).