الجمعة 2020/02/21

آخر تحديث: 15:43 (بيروت)

اللطافة المصرفية

الجمعة 2020/02/21
اللطافة المصرفية
يحاول اجبارنا على الاخذ بدعايته. ومفادها أن المال لا شيء،
increase حجم الخط decrease
لقد واظبت البنوك، وفي حين استقبالها لنا، على إبداء لطافتها حيالنا. وهذه اللطافة كانت، ومثلما هو معلوم، تتسم بأمر محدد، وهو أنها موضوع تأدية. فكان الموظفون، الذين يطلّون علينا من خلف مكاتبهم، أو الذي يتقدمون منا مباشرةً مع دخولنا من الباب، يؤدون هذه اللطافة بسحناتهم الهادئة، وبابتساماتهم البلاستيكية، وبلغتهم الخدماتية، التي تستفهم لتجيب بحركات رشيقة من أجسامهم. كانوا يلبسون اللطافة، وغالباً، ما كانت تبدو ضيقة عليهم، وضيقها هنا يساوي أنهم لا يشعرون بها، إنما، وببساطة، يفتعلونها.

ولأن اللطافة المصرفية هي لطافة ضيقة، ولأنها مفتعلة، فهي فعلياً قامعة. وأول قمعها هو أنها مسكونة بإرادة منعنا من الشك فيها، بحيث علينا أن نتلقاها كما هي، من دون أي تساؤل إن كانت على معناها أم على مشهدها. قمع اللطافة، في هذا السياق، وتحت وطأته، يجعلنا نردّ عليها بتأدية تصديقها، تأدية أخذها على محمل الحقيقة. وبهذه الطريقة، تدور تمثيلية بيننا وبين الموظفين، تمثيلية لا يمكن أن نتدخل، من جهتنا، لأجل توقيفها، ليس لأننا فيها فحسب، بل لأنها، وبحسب نظام البنك، خط أحمر، لا يمكن تعديه. فهذه التمثيلية، وإن تعرضت للتخلخل، أو للتقويض، تكشف عن ذلك النظام، عن علاقة أخرى بينه وبيننا، بينه وبين الأيدي المودعة، التي يعمد إلى إنتاجها حين تفتح حساباتها فيه.

من الممكن سرد هذا الإنتاج هكذا: ما أن يفتح المودع حساباً فيه، حتى يبتلعه، ويعيد قذفه مبرمجاً على الالتزام بقانونه، الذي، وباختصار، يحكم كل عيشه بالمال. فإن دفقاً منه، إن دفقت هذه المادة عبره، تحمله من مكان إلى آخر، وتجعله يمدّ صلات بالسلع، أياً كانت، تماماً كما لو أنها سائل يولد طاقته، يولد وجوده، الذي يساوي التبضع، والاستهلاك، المراكمة إلخ. لا يملك المال، إنما المال يملكه، وهو حين يتملك سلعة ما، لا يفعل شيئاً إزاءها سوى أنه يكرر صلة المال معه. فلأن المال يملكه، يستطيع تملك السلع، وهذا، على اختلاف درجات هذا التملك.

على أن البنك، وحين يستقبلنا بلطافته، يريد أن يكتم بها هذا الإنتاج، يكتم بتمثيليتها كل خلاصته، أي ان المال يتملكنا، وأنه بتملكه لنا، كأننا سلعه، يحضنا على التملك، على السعي إلى أن نكونه. بتلك اللطافة يخبرنا البنك، وهذه دعايته، أن كل ما يخلفه ذلك الإنتاج، وتملكه، فينا، أي تحكمه بنا، ليس بالأمر الواقع. كما لو أن لطافة البنك هي ابهام المنتِج لسلعه، لما يبغي أن تكون سلعه، إيهامها بأنها ليست سلعاً بعدما برمج عيشها على كون المال فيه هو بمثابة وقودها.

حالياً، البنك في لبنان يمارس هذه اللطافة إلى أقصى حد، بمعنى أنه، وحين يسرق أموال المودعين، ويطلب منا ان نستكمل عيشنا كأنه على ما يرام، يحاول إجبارنا على الأخذ بدعايته. ومفادها أن المال لا شيء، ليست المادة التي تتحكم بوجودنا في ذلك العيش، الذي ألفه لنا، بل من الممكن لهذا العيش ان يتواصل من دونها: "لا حاجة لكم إلى المال، عيشوا من دونه، امضوا الى ذلك".

يفرض البنك دعايته تلك علينا، يجبرنا عليها، ومن يشكك فيها، يكفر به، مبيناً سلبه لنا، يعود ويمارس لطافته بحقه، كما هي، كما كانت بتمثيليتها دوماً، أي كمجرد قمع. فها هو مروان خيرالدين يعتدي عبر حراسه على ربيع الأمين، ثم على محمد زبيب. وها هو "فرنسبك" يحتجز جيسيكا خزريك، ثم يجرها أمنه إلى مخفر مينا الحصن، وها هم كثرة يتعرضون يومياً لإذلال المصرف لهم... وكل هذا هو امتداد للطافته، أو بالأحرى هو لطافته بعينها. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها