هذه التساؤلات، وغيرها، تتردد كثيرًا، كلما انطلق عمل سردي جديد من التاريخ، بشخصياته وأحداثه المعروفة، وصفحاته متعددة المصادر بين وثائق ومراجع أكاديمية، وكتب ومذكرات واعترافات وسير ذاتية، ومواد صحافية وإعلامية، وشهادات شهود، وغيرها، إلى جانب ذاكرة المؤلف نفسه، وأمانته، وموقفه الإيديولوجي وانتمائه السياسي، والزاوية التي نظر بها إلى الأمور، وحاكَم بها الشخوص، وسائر هذه العوامل المؤثرة التي لا يمكن استبعادها نهائيًّا حال التفاعل مع النص الروائي التاريخي، سواء من جانب القارئ المتخصص والعادي، مهما كانت النظرة إلى العمل فنية مجردة، على اعتبار أنه عمل إبداعي في الأساس، وفق تصنيف مؤلفه له، ودار النشر.
في هذا السياق، جاءت رواية "1970" لصنع الله إبراهيم، الصادرة مؤخرًا عن دار الثقافة الجديدة في القاهرة في مئتين وخمسين صفحة من القطع المتوسط، والمؤطرة بغلاف يضع عنوانها في دائرة أكثر تحديدًا، فـ"1970" هو عام رحيل جمال عبد الناصر (15 يناير/كانون الثاني 1918-28 سبتمبر/أيلول 1970)، وقد أطل الزعيم بصورة له على وجه الغلاف، فيما حمل ظهر الغلاف توصيفًا من الناشر للرواية بأنها "قصة العام الذي غاب فيه جمال عبد الناصر، الدراما المثيرة التي عاشتها الأمة طوال عشرين عامًا".
هكذا، بتضييق دائرة الاحتمالات، تركزت عناصر التشويق والإثارة المسبقة. فالروائي المحنّك المجدد ذائع الصيت صنع الله إبراهيم (83 عامًا)، صاحب التجربة الإبداعية الممتدة المعروفة بجراءتها وتجريبيتها وخوضها في قضايا إشكالية شائكة، فنية واجتماعية وسياسية، والمحسوب فكريًّا وإيديولوجيًّا على حركة اليسار، يواصل ما بدأه في رواياته السابقة من أعمال "الكولاج الروائي" والإبحار "الذاتي" في التاريخ بعمل جديد لعله الأكثر خطورة، فصاحب "ذات" و"اللجنة" و"أمريكانلي" و"العمامة والقبعة" و"القانون الفرنسي" و"برلين 69" يتعاطى في هذه المرة مباشرة مع شخصية عبد الناصر الجدلية الخصيبة، في لحظات بالغة السخونة في حياته القصيرة نسبيًّا، وفي تاريخ مصر الحديث.
لا خيار للقارئ أمام عمل ثري كهذا، سوى الانصياع التام لمُتّجَهَيْهِ الاثنين اللذين يسيران متوازيين ويتباريان معًا في استلاب الحواس والانتباه الذهني والتحليق الخيالي، وهما: مُتَّجَهُ الرصد الفوتوغرافي للصور والوقائع والأحداث والأفعال من جانب ناصر ورفقائه ومجايليه وشخصيات الرواية من الأسماء الحقيقية المعروفة في مصر وخارجها من الدول العربية والعالم، في سائر المجالات: السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية بل والثقافية والفنية والرياضية الخ، ليس بالضرورة كما جرت هذه الأحداث فعليًّا، وإنما كما يعتقد المؤلف أو "الراوي العليم" أنها حدثت، بأسلوب يقيني لا يقبل التشكيك ولا المراجعة، وذلك اعتمادًا على التوثيق والمستندات ووسائل الإعلام والمقابلات الشخصية وترصد مجريات كل يوم من أيام العام، بأسلوب تدويني مذكراتي، من 1 يناير/كانون الثاني إلى 29 سبتمبر/أيلول 1970 (صبيحة وفاة ناصر).
في الوقت ذاته يمضي المُتّجَه الثاني، الذي ميّزه الكاتب ببنط طباعي مختلف، غامق ومائل، وهو دائمًا بضمير المخاطب "أنتَ"، ويوجهه الراوي العليم إلى شخصية عبد الناصر كبطل للعمل، داخل البطولة الكلية للزمان أو التاريخ. ومن خلال مخاطبات وإفضاءات الراوي المجهول لجمال، وتحدثه معه، يبدو كأنه يسرد مذكرات ناصر الشخصية، كإنسان وزوج ورب أسرة وأب وصديق لهيكل الصحافي والمشير عامر وآخرين، وكضابط ثائر وكقائد ورئيس دولة وزعيم مؤثر عربيًّا ودوليًّا.
وفي هذا الغوص في أعماق ناصر، لا يكتفي الراوي بالعرض، وإنما يتقصى أدق التفاصيل، ويحلل بواطن الأمور، ويتماهى تمامًا مع شخصية ناصر، في آرائه وقناعاته وقراراته وأفكاره واختياراته، وفي خلجاته وأنفاسه ودقات قلبه وخبايا ضميره، ولا يعني هذا التماهي أنه يتفق معه على طول الخط، إنما يمنح الراوي نفسه أيضًا حق انتقاد شخصية ناصر المكشوفة تمامًا أمامه ربما أكثر من معرفته هو بنفسه، كما يكتسب الراوي سلطات غير محدودة في اتهام ناصر أحيانًا وإدانته ومحاسبته، فكأنه قرينه المرافق، الذي لو عاد بهما الزمان لنصحه في بعض المواقف بتصرفات ما، قد تكون مماثلة لما فعله ناصر في الواقع، وقد تكون مختلفة.
هكذا جاء الزمن حيلة أو لعبة لا أكثر، فمن جهة فإن الأحداث لا تدور فقط في العام 1970، وإنما يأخذها الفلاش باك على طريقة "حدث في مثل هذا اليوم" مع كل يوم من أيام العام في أجندة السرد الروائي إلى سنوات سابقة يتذكرها الراوي العليم، ويذكّر بها ناصر، منذ كان طفلًا (علاقته بأمه) وشابًّا (زواجه، تقدمه إلى الكلية الحربية، بداية علاقته بالعمل السياسي)، واستمرت هذه الاستدعاءات على مدار حياته كلها (حركة الضباط الأحرار، ثورة يوليو، نفي الملك، الاشتراكية، تأميم القناة، العدوان الثلاثي، نكسة 1967، اختيار السادات نائبًا، خطاب التنحي، العدول عن التنحي استجابة لـ"صوت الجماهير"، الموت الغامض للمشير عامر، الخ الخ)، وصولًا إلى آخر لحظات مرض ناصر وأزمته القلبية وملابسات وفاته.
كذلك، فإن هذا الراوي العليم قد يفتح أقواسًا استثنائية داخل سرده، ليحكي لذاته أو لناصر عن أمور ووقائع تعود إلى ما بعد وفاة ناصر (الزمن الذي انتهت عنده الرواية)، وتلك مفارقة عجائبية مقصودة، فالراوي العليم لديه قدرات وطاقات مطلقة، ومن ذلك مثلًا ما حكاه الراوي بين قوسين عن تولي السادات الحكم وقيامه بما سمّاه "انقلاب 15 مايو 1971" وإيداعه سامي شرف "مساعد ناصر الأمين" السجن، وكذلك ما حكاه الراوي مخاطبًا ناصر عن تطور شخصية حسني مبارك "ضابط الطيران الشاب الكفء" (نائب رئيس الجمهورية في عهد السادات ورئيسها بعده)، والذي صار في مرحلة من حياته "من تجار السلاح الكبار ذوي العلاقة الوثيقة بأجهزة المخابرات الغربية"، وفق الراوي.
من جهة أخرى، فإن استدعاء الراوي العليم المجهول للأحداث الذاتية المتعلقة بناصر، و"عناوين" الأحداث العامة المصرية والعربية والعالمية، ضمن لعبة الزمن هذه، لم يكن فقط بهدف تذكرها أو توثيقها، فهذا ليس شأن الأديب في المقام الأول، كما أنها وقائع قريبة، لم تذهب إلى طي النسيان بعد، وهي شائعة وذائعة ومسجّلة وثائقيًّا وإعلاميًّا كتابة وصوتًا وصورة، ومتاحة بكامل تفاصيلها لمن يستدعيها من منابعها الرصينة، لكن استحضار الراوي لها جاء من منطلق إحياء شخصية ناصر نفسه، إنسانيًّا، ككائن بشري من لحم ودم، وإعادة تحليل شخصيته وتشريحها وتقييمها بمنظور شخصي، من وجهة نظر الراوي، ذلك العليم الفوقي، الذي يعكس بطبيعة الحال شخصية صنع الله إبراهيم نفسه، ورؤيته لكل ما يتعلق بناصر وعصره ورجالاته ووقائعه، الكبيرة والصغيرة على السواء.
في هذه المعمعة، امتلأت يوميات أجندة العام 1970 التي خطّها السارد على مدار صفحات الرواية بآلاف الأحداث والوقائع والتفاصيل المتعلقة بناصر والشؤون المصرية والعربية والدولية، واختلط الخاص بالعامّ، والحقيقي والمتخيل، بخيوط حريرية ناعمة، حيث خلع المؤلف صفة الفني على ما هو تاريخي، لتكون الوقائع الثابتة مصبوغة دائمًا بلون الراوي، متحللة من حَرْفيتها وجمودها، وكذلك خلع صفة التاريخي على ما هو فني، لإكساب التحليلي والذاتي والمتخيل إيحاء وهميًّا بأنه حدث بالفعل، حتى وإن كان مجرد قراءة للراوي في أحد أحلام ناصر، التي لم يحكِ عنها من قبل لأي مخلوق! وبهذه الثيمة السحرية الذكية، فقد سمح المؤلف لنفسه بتصور أي شيء، وقول أي شيء، بدون أي سقف، وبغير خوف من المحاسبة، فالمنظومة بأكملها تجريبية لا نسقية، وليس من المنطق إخضاع عناصرها ومفرداتها لأي منطق.
بهذا الطرح المركّب، رسم الراوي جدارية بانورامية شاملة لدراما الحياة والبشر في العهد الناصري، وأطل من خلال الشأن المصري على وجه الخصوص واستدعاء العناوين اليومية بطريقة الكولاج التوثيقي على ملخص وافٍ لملابسات التجربة الناصرية في مصر، ونتائجها، وتفاصيل المشهد المعيش بوجوهه المختلفة، ولم يهمل الراوي أيًّا من هذه الوجوه الدالة على تقلبات الواقع وتناقضاته مهما بدا بسيطًا أو هامشيًّا، من قبيل: طرح 285 ألف بطانية مستوردة في الأسواق، البطانية البولندية بسعر 275 قرشًا (8 يناير/كانون الثاني 1970)، رابسو يغسل من غير مجهود (13 كانون الثاني)، اقتراح في مجلس الأمة بإعادة تسعير اللحوم بحيث لا يزيد سعر الكيلو على 55 قرشًا (22 كانون الثاني)، أفلام صوت الفن تقدم عبد الحليم حافظ ونادية لطفي في "أبي فوق الشجرة" (6 إبريل/نيسان)، الراقصة زيزي مصطفى حاولت دخول المسرح العائم بفستان فوق الركبة فاعترضها البعض وتطور الأمر حتى خلعت حذاءها لتستعمله في الدفاع عن نفسها (29 يونيو/حزيران)، وغيرها من عناوين المشاهد في مختلف الميادين، التي أوردها بدون شروح، كونها كافية ومعبرة بحد ذاتها. وبالطبع فقد احتلت العناوين السياسية والعسكرية والاقتصادية السواد الأعظم من صفحات الرواية، وآخرها: "فقدنا عبد الناصر، انهدّ الركن الذي كانت الأمة العربية تلوذ به. مظاهرات باكية في بيروت ودمشق وعمّان وطرابلس والأرض المحتلة وبقية العواصم العربية" (29 سبتمبر/ أيلول).
أما الصوت التحليلي المتعمق، الأكثر حساسية وإثارة للجدل، فهو ذلك الحديث الخطابي المسهب الموجّه من الراوي لعبد الناصر في تصرفاته المتعددة، مرة مؤيدًا وتارة مؤنِّبًا وحينًا منتقِدًا، بهدف تعريته إنسانيًّا وكشف المسكوت عنه في شخصيته وضميره وإعادة قراءته من جديد بمفاهيم عصرية ومن وجهة ذاتية منفردة. ومن ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، ما تحدث به الراوي حول سقوط حلف بغداد واندلاع ثورة العراق في يوليو/تموز 1958: "سرعان ما وقعت أحداث العراق، التي فشلتَ في السيطرة عليها، أردتَ أن تفرض مفهومكَ البائس للديمقراطية، الذي يلغي كل القوى السياسية عداكَ، على شعب عريق له نضال سياسي طويل وأحزاب عريقة، واستغل العدو نرجسيتكَ، فوقعتَ في الفخ".
من ذلك أيضًا: "جرّبتَ صراع السلطة كثيرًا منذ اليوم الأول: محمد نجيب، ورشاد مهنا، والإخوان المسلمون والشيوعيون والأخوَان صلاح وجمال سالم، والبغدادي، والضباط الآخرون الطامحون، وصولًا إلى شمس بدران وعبد الحكيم عامر نفسه. وكانت كفتكَ دائمًا هي الراجحة، فتخلصتَ منهم جميعًا واحدًا بعد الآخر، لكنكَ لم ترق دماءً مثل العراقيين، هل هي اختلاف طبائع الشعوب؟!"، ويمضي الراوي مخاطبًا ناصر بجسارة: "لم تكنْ ضد فكرة التعذيب الخفيف، وتعتبره نوعًا من الرياضة العسكرية العنيفة!". وحول تنكيل ناصر بالشيوعيين المصريين يقول الراوي مخاطبًا إياه: "لقد أطلقتَ ضدهم في سنة 1959 أعنف حملة استخدمتَ فيها كل الوسائل، بما في ذلك الأكاذيب، عندما اتهمتهم بالعمالة لروسيا تارة وبلغاريا تارة أخرى، ووضعتَ منهم المئات في السجون والمعتقلات"، ويستطرد في موضع لاحق: "لقد تمت التصفية كاملة، وصرتَ ممثّل الاشتراكية الوحيد!"، ولعل الراوي هنا يكون قد أبرد جراح صنع الله إبراهيم نفسه، الذي جرى اعتقاله خلال الفترة ما بين 1959 و1964، على خلفية انتمائه إلى أحد التنظيمات الشيوعية السرية.
في جانب آخر، اقترب الراوي من روح ناصر بمؤازرته والتعاطف التام معه في الكثير من المشاهد والمواقف، ليس فقط في حالات العزة والانتصار، كتأميم قناة السويس، واكتمال بناء السد العالي "ثمرة الكفاح الطويل والمعارك الصعبة"، لكن كذلك في بعض ساعات الانكسار والخيبة، كما في هزيمة 5 يونيو/حزيران 1967، التي لم يبرئه الراوي منها، لكنه خاطبه بقوله: "كم تمنّيتَ لو لم يأتِ هذا اليوم أبدًا"، ثم مضى يصب اللوم عليه: "الفخ كان معدًّا بمهارة، بل وله اسم هو: عملية اصطياد الديك الرومي، وانزلقتَ إليه ببلاهة".
لقد اختتم صنع الله إبراهيم روايته بمذكرات الراوي الخاصة بيوم 29 سبتمبر/أيلول 1970، حيث التفاف الجموع بقصر القبة هاتفين: "في ذمة الله يا حبيب الله، وداعًا يا جمال، يا حبيب الملايين". ثم أتبع الراوي كولاجه التوثيقي بعبارة تحليلية، من تلك الفيوضات التي يخاطب بها ناصر بمصداقية ودون أدنى دبلوماسية أو مراعاة للظرف: "خذلتَ نفسكَ، وخذلتَنا، ثم ذهبتَ، وذهبت معك مقدرات الأمة وآمالها، إلى حين!". وبين ما نقله الراوي من الوثائق والصور، وما قاله لناصر من قلبه، تبقى رواية "1970" مثارًا للإشكالات والتساؤلات الأبدية المعلقة، وتلك لغة الفن المراوِغة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها