الأحد 2020/02/02

آخر تحديث: 08:49 (بيروت)

فيروس ينتج فيروساً

الأحد 2020/02/02
فيروس ينتج فيروساً
بين المذهب العلمي والمذهب الهذياني
increase حجم الخط decrease
في العام 1987، حدد جان بودريار الفيروس بكونه "الآخر المطلق"، الذي لم ينتجه سوى وضع بعينه، وهو وضع سيتفاقم بدءاً من نهاية القرن العشرين: تحول كل آخر للعالم إلى آخر محال. بالتالي، الفيروس هو هذا "الآخر" الذي يحل "مطلقاً" لأن انعدامه تام، أي، وبطريقة أخرى، هو آخر العالم، أو بالأحرى النظام الذي اعتقل العالم، هو آخر هذا النظام الذي طعن في آحاديته. الآخر، بما هو مطلق، هو من إنتاج الواحد، الذي كان قد سبقه إلى صفته عينها، صفة أنه مطلق، ولكن، لا يمكن لأي منهما أن يداوم على صفته هذه في حال داوم غيره على بقائه. لذا، يستعر النفي بينهما: النظام يحاول مكافحة الفيروس، وهذا، في حين أن الفيروس يدمره.

حرب النفي بينهما-وإن صح جمع الحرب والنفي بالطبع-ليست متكافئة البتة. من جهته، يحاول النظام، نظام الواحد المطلق، بدايةً، أن يكافح الفيروس بالاستناد إلى إجراء محدد، وهو تعيين سببه، أي على أساس أنه نتيجة لسبب. إلا أن هذا النظام، وبما أنه لا يقدر، ومهما بلغ تناقده، أي نقده لذاته بذاته، على تعيين "السبب"، وباعتباره علة وظرف وجود أيضاً، في آحاديته، فهو يمضي إلى تعيين أسباب أخرى. وهذا التعيين، يتأرجح بين المذهب العلمي والمذهب الهذياني، بين القول الطبي والقول المؤامراتي على سبيل المثال، من دون أي انقطاع بينهما، بل، وعلى العكس: فالقولان يسعيان إلى إيجاد "آخر داخلي" للنظام بوصفه السبب، أكان جسماً حيوانياً (ثعبان، خفاش إلخ.)، أو طرفاً شريراً (شعب، تنظيم، دولة إلخ.).

ولكن، العلاقة بين القولين ليست مجرد اشتراكهما في المسعى ذاته، مسعى إنكار الآحادية المطلقة بالآخرية الداخلية، إنما أيضاً إشتراكهما في العجز عن تحقيقه. بهذا المعنى، القول المؤامراتي يسجل عجز القول الطبي، كما أن القول الطبي، وأي كانت درجة تعقله، ينطوي على نزوع إلى القول المؤامرتي، وكل ذلك، لأنهما، وحيال الفيروس، الذي لا يمكن ضبطه، ولا يمكن توقيفه، كناية عن ضرب من الهباء. النظام، بهذين القولين، يدافع عن ذاته، وهذا الدفاع ليس مهاجمة، إنما مجرد انكفاء، انكفاء الخائف على آحاديته إلى آحاديته، بما هي علة وظرف وجود الفيروس. هكذا، ومهما دافع النظام عن ذاته منه، لا يحمله ذلك سوى على إعادة إنتاجه.

كل هذا، في حين أن الفيروس يعمد إلى تدميره، تدمير أجساد محكوميه، أو تدمير ماكيناته، أو تدمير شبكاته. الآخر المطلق، وحين يصيب موضوعه، وهو أجسادنا في حالة الكورونا، يدمر المجال المحوري لحكم النظام، وبتدميره لها، يقولها. فعلى عكس الداء، الذي يقول الجسد عبره شيئاً ما، أي أن الداء رسالته، الفيروس، وحين يصيب الجسد، ويقتله، يبدو أنه هو الذي يقوله، أي أنه يحوله بأكمله إلى رسالته. ولمن يبعث بها؟ إلى النظام، الذي، في الواقع، لا يستطيع الرد عليها، لأنه، وببساطة، لا يقدر على الإقرار بأن هناك مُرسلاً لها، ففي حال فعل ذلك، يؤكد أن ثمة آخر له، أي أنه يطيح بآحاديته. وعلى هذا النحو، بدل أن يرد على الرسالة، يعمد النظام إلى تناقلها، ونشرها فيه، محولاً إياها إلى رسالة موجهة من داخله إلى داخله.
فالعدوى هي بمثابة تناقل الرسالة مكان الرد عليها، فحين يعدي جسدٌ جسداً غيره، ينقل له الرسالة، التي، وببقائها بلا رد، تبدو أنها لم تصل بعد، فيعيد الفيروس إرسالها مرة تلو المرة. فعلياً، العدوى ليست تناقل الرسالة من قبل النظام مكان الرد عليها فحسب، إنما، وأيضاً، السبيل إلى تكرار بعث الرسالة من قبل الفيروس. فيبعث النظام بالرسالة من ذاته إلى ذاته، كأنه يتحول الى مرسلها، لكي لا يرد عليها، لكي لا يقر بأن ثمة آخر له، ما يجعل الفيروس عندها يعود، ويرسلها إليه. ففي العدوى، لا يمكن الحسم إن كان النظام هو الذي يبعث بالرسالة أم الفيروس، ولكن، قد يصح الحسم أن النظام هو بحد ذاته نظام فيروسي. إذ يصير هو الفيروس لكي يبقى واحداً مطلقاً، وحينها، بالتحديد، يؤدي إلى آخره المطلق من جديد: كأنه فيروس ينتج فيروسا.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها