الأربعاء 2020/12/23

آخر تحديث: 12:53 (بيروت)

"مانك" ديفيد فينشر.. هوليوود القذرة، هوليوود القبيحة

الأربعاء 2020/12/23
increase حجم الخط decrease
إذا أردت معرفة من أين نشأ بالضبط التلاعب بالرأي العام في صورته المعاصرة، ومن أين أتت النماذج الرائدة التي يحتذي بها اليوم روبرت مردوخ، أو فلاديمير بوتين، أو حتى عبد الفتاح السيسي، وما الصورة التي يمكن أن يكون عليها رواة الحقيقة في زمننا.. فعليك بمشاهدة فيلم ديفيد فينشر الجديد، "مانك"(*)، ولا تُفاجأ أن الحاضر باللونين الأبيض والأسود بدلاً من الألوان الزاهية. فالفيلم تقع أحداثه في ثلاثينيات القرن الماضي، عندما تعلَّمت الصور السينمائية النطقَ بعد المشي، وطوّرت إمكانات دعائية بفضل شعبيتها المتزايدة وزهو نجومها وعاطفية سردياتها. مانك، عنوان الفيلم، يشير إلى هيرمان جي.مانكيوز، واسمه وحده كفيل بتسريع نبض قلوب عشاق السينما، منذ كتابته سيناريو فيلم "المواطن كين" (1941، إخراج أورسون ويلز)، خالقاً بذلك تحفة سينمائية طبعت عصرها، عصر هوليوود الذهبي، وإلى الآن هي أفضل إنتاج سينمائي في نظر كثيرين.

في وقت ما، منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، التقى الصحافي وكاتب السيناريو هيرمان جي. مانكيوز، قطب الإعلام والمنتج السينمائي المؤثر ويليام راندولف هيرست وعشيقته النجمة ماريون ديفيز. مرة أخرى، كان الأمر مشابهاً لأيامنا: صناعة السينما في أزمة، والاقتصاد متعثّر ومأزوم، وكالعادة تحمّل الموظفون والعمال الصغار في استديوهات هوليوود، العبء الأكبر، عندما واجه أصحابها صعوبات مالية. الدخول إلى ما وراء الكواليس في مجال الترفيه والإعلام وكشف دائرة صناعة السياسات في ذلك الوقت، شكلا أساساً لسيناريو "المواطن كين"، الذي فاز عنه مانكيوز وويلز بأوسكار أفضل سيناريو، لكن قبل ذلك أثارت قصته وكاتبه أحد صراعات هوليوود الأسطورية. الصراع وأطرافه وخلفياته هي محور "مانك"، وتُروى على مستويين زمنين والكثير من "الفلاش باك"، كما فعل أورسون ويلز من قبل في فيلمه الأيقوني.
 


تحت إشراف فينشر، وفي نصّ عتيق لوالده (توفي العام 2003 وبدأ كتابة السيناريو منذ ما يقرب من ثلاثين عاماً)، يتألق هذا الـ"مانك" كنجم سيرته الذاتية، في دراما صعود على طريقة هوليوود في ذلك الزمن. البداية المتعثرة كبطل محطّم في اللقطات الأولى تهيّئنا للكريشندو المؤجل ورؤيته منتصراً في اللقطات الختامية. يكمن في جوهر النص ألم كاتب أسيء فهمه، وكافح طويلاً من أجل الاعتراف بموهبته والتقدير لعمله، وهو جانب أكّده جاك فينشر، الصحافي وكاتب السيناريو الفاشل، كثيراً في المسودة الأولى، كما يقول ابنه ديفيد في المقابلات: "المسودة الأولى بدت وكأنها انتقام. في الفيلم النهائي، ما زال هذا الألم حاضراً، لكن في النهاية، أصبح الفيلم بطريقة ما، تحية إلى سينما هوليوود الذهبية". في مفتتح الفيلم نرى مانك رهين سرير مزرعة نائية في صحراء كاليفورنيا بجبيرة تلفّ وركه بعد حادث سيارة. في غضون شهرين، وجبت عليه كتابة سيناريو لأول أفلام الشاب المعجزة أورسون ويلز عن حياة ويليام هيرست، الذي كانت إمبراطوريته الإذاعية والصحايفة في ذلك الوقت تتمتع بسلطة تسمية رؤساء الولايات المتحدة، أو كما في حالة كاليفورنيا، على الأقل، حكّام الولاية.

روائياً وخيالياً، يتعامل المخرج وكاتبه مع أقوى مسوِّق شبكي في تاريخ الميديا، ولا يبتعد ذلك عن اهتمام فينشر الدائم بألعاب القوة في أفلامه. هنا يعود بالزمن إلى العام 1930: في الولايات المتحدة، يهزُّ الكساد الصورة الذاتية للمجتمع الليبرالي عن نفسه كمجتمع مدمن على التقدم. في ألمانيا، يقف متعصبٌ معاد للسامية على أبواب الرايخستاغ. في هوليوود، قطب الإعلام هيرست، بمساعدة قطب السينما لويس ب.ماير، يحشد قواته لمنع انتخاب الكاتب الاشتراكي أبتون سنكلير حاكماً لولاية كاليفورنيا. وسط ذلك كله، مانك، الصاعد بقوة ليصبح النجم الجديد في سماء السينما الناطقة المزدهرة. يجسّد غاري أولدمان، هذا الذي لا يُقاوم، مدمن الخمر، المرِح الصاخب، ذا الأصول الألمانية، ببهار من بوهيمية تشارلز بوكوفسكي وتلذُّذ بإهمال الذات. يحمل تعبه وعنفه وصخبه ليعصف بابتهاج لفيف من نخبة منتجي هوليوود تجمعهم سهرة معبّأة بدخان السيجار الكوبي ورائحة كؤووس الويسكي ورفقة النساء الصغيرات. يكسر تمثالهم، هؤلاء المتنفذين و"صانعي المحتوى" بتعبير اليوم، ​​المعتقدين بتمتعهم بثقافة رفيعة ومُثُل أميركية، فيما هم في حقيقة الأمر يخلطون بين العائدات والجدارة، بين الأرباح والمبادئ. في هذه العلبة المفتوحة من الذكور الفائقين بأسمائهم الفخمة وإمبراطورياتهم النافذة، ​​يطلق مانك عقال لسانه لمهاجمتهم مع احتفاظه بهدوئه ورصانته.

على سبيل المثال، في مشهد لامع، يفجّر حفلة عيد ميلاد هيرست الرائعة، بحماقات حول هتلر، والاشتراكية، وإعادة توزيع الثروة، ويفضح مضيفه (الرائع تشارلز دانس) باعتباره فائزاً رجعياً في الأزمة من دون أن يطرق الأخير برأسه. بلسان ثقيل وثرثار، يقول مانك إن الفارق بين اليمين واليسار هو أنك في ظل الاشتراكية تتقاسم الثروة، بينما في ظلّ الشيوعية تشترك في الفقر. ثم قام هو وعشيقة هيرست، ماريون ديفيز (أماندا سيفريد)، بجولة في حديقة الحيوانات الخاصة بحبيبها فاحش الثراء، تناقشا فيها حول الرخاء الحقيقي والفقر الزائف. في مشهد آخر سيضمن حظوظه في ترشيحات أوسكار العام المقبل، يعيد الكرّة مع تسريع الإيقاع والحدّة لتتناسب مع نسق الثلث الأخير للفيلم.

لا يقوم فينشر فقط برسم "اسكتش" لنظام رواد الأعمال في مجال صناعة السينما الذين جعلوا هوليوود (بفضل المهاجرين اليهود) مركزاً عالمياً للأفلام في ذلك الوقت؛ بل يفعل ذلك بسرور كبير واهتمام حقيقي بالأبطال الموجودين دائماً، قديماً كما الآن. لكن من دون معرفة أساسية بتاريخ السينما، الأميركية تحديداً، وموقع "المواطن كين" في المدونة السينمائية، وظروف الموظفين في صناعة السينما في الثلاثينيات من القرن الماضي؛ يصعب على المشاهد العادي فكّ شفرة السيناريو وهضم أحداثه وحكاياته. الأخيرة هذه مُهمّة بخاصة ومصدر ضعف واضح، لأن غالبية شخصيات الفيلم لا تستند إلى نظرائها تاريخياً بقدر ما تنبني على الحكايات المروية عنها. مثل زوجة مانك، التي يطلق عليها الجميع "المسكينة سارة" لأنها يجب أن تتحمّله وتربّى أطفالهما بمفردها. جميع الشخصيات الثانوية عبارة عن كليشيهات عاطفية، من التقني السينمائي الذي يزيّف دعاية انتخابية ثم يستيقظ ضميره بعد إعلان النتائج فينهي حياته، إلى السكرتيرة التي تعتقد أنها تعرّفت على الأناني المخمور في مانك، إلى أن تعرف جهوده لإنقاذ اليهود الألمان.

التصوير باللونين الأبيض والأسود يحاول مدّ الفيلم بالأصالة، كما فعل "الفنان" (2011، ميشال هازانافيسيوس) ذات مرة، وليس لإثارة التعاطف، كما فعل "لائحة شندلر" (1993، ستيفن سبيلبيرغ). النتيجة النهائية تبدو كصورة متقادمة عبر فلتر انستغرامي، لكن الإضاء والأزياء في الفيلم رائعين. على صعيد خطاب الفيلم، يعاني "مانك" نوعاً من الفصام في تعامله مع الثناء على أيقونية بعض الأوقات الهوليوودية وصانعيها وأوضاعهم الرديئة في أزمة كان نظام الاستديوهات جزءاً منها. في ذلك، نجد، للمفارقة، الجزء الأروع في الفيلم: التعبير المثالي عن العلاقة المتناقضة لجيل كامل من الفنانين الأميركيين مع نظام الإنتاج في هوليوود. إذا كانت "نتفليكس" هي المدافع عن عودة جزئية إلى نظام الاستوديو - وما تقاسيه حالياً شركات الإنتاج الصغيرة والموزعين والمسارح يمكنه تسريع هذا التغيير-  فإن "مانك" هو في حقيقته ليس سوى تأكيد فشل.

لكن هذه قراءة بعيدة. الأقرب والأسهل هضماً يقدّمه الفيلم أيضاً: الأسود والأبيض الأنيق، وخلفيات الاستوديوهات الباعثة على الحنين إلى الماضي، والنقد الحاد لصناعة الترفيه في زمنها الذهبي وامتداداته في عالم ما بعد #Metoo. هكذا، نجحت "نتفليكس" في خلق أعجوبة سينمائية من النوع الذي تحبّه هوليوود وأكاديميتها للتكفير عن خطاياها وتصدير صورة تقدّمية عن نفسها. فـ"مانك" فيلم سياسي وشخصي وتراجيدي ولاذع، دوكو-دراما عن المستبد بنعمة وفضل ورحمة "فوكس نيوز" وأشباهها، أمثولة تحذيرية عن الروابط بين صناعة السينما والإعلام والسياسة، وتهويدة أميركية راهنة عن الأمراء الذين يتحدّون الملوك بشجاعة. وبذلك، يكتمل فخّ "نتفليكس" لحصد الأوسكار الكبيرة في نيسان/أبريل المقبل. الأوسكار نفسها التي أنشأها لويس ب. ماير، الرجل الذي لم يتورّع الفيلم عن إتلاف صورته تماماً، في خضم نقده اللاذع لفساد مصنع الأحلام الهوليوودي وفضح مغازلته المستمرة للأقوياء.

(*) يُعرض حالياً في "نتفليكس".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها