الأربعاء 2020/12/02

آخر تحديث: 16:19 (بيروت)

أحمد بيكوس.. العود الأخير

الأربعاء 2020/12/02
أحمد بيكوس.. العود الأخير
عاقبته السلطة بالتجاهل، وبعد موته تعاقبه بالنسيان
increase حجم الخط decrease
أكتب هذه المقالة عن الفنان التشادي أحمد بيكوس (مهدي صديق اسمه الحقيقي) لأنّي مدينٌ له بالكثير، ولأنّه يستحق الكتابة أكثر من الكثيرين. فأحمد، وسَم طفولتنا نحن مواليد التسعينات. اكتب كي أذكّر شخصاً ما بأحمد بيكوس، كي لا ينساه التشاديون، كي يظلّ في ذاكرتنا، في أعماق أرواحنا. فلا يمكن أن يذهب هكذا وهو الذي من خلال فنّه أطلعنا على الكثير من القيم التشادية الأصيلة التي حافظنا عليها. ولأن بيكوس هو الذي شكّل مرحلة طفولتنا، والموسيقى التي عرفتها آذاننا وتناولنا الإفطار لسنوات على إيقاع أغانيه، "يا دنيا" و"عدوية" و"الريضة شيطان" و"ابن تشاد" و"ابشة دار السلام"، و"أمي.. أرجوك سامحني". 

لا يختلف اثنان في تشاد على أن أحمد بيكوس هو أحد أفضل من تأبطوا العود في هذه البلاد. كما لا يمكن أن تجد ثلاثة تشاديين من دون أن يكون أحدهم على دراية تامة بأغانيه العديدة. هو المغنيّ التشادي الوحيد الذي دخل كل البيوت، وترددت كلمات أغانيه في أرجاء البلاد. مضت 19 عاماً على وفاته في الخرطوم بعد مسيرة ناجحة، وما زالت الإذاعات تعيد أغانيه صباح مساء.

كثيرون غنوا في هذه البلاد، لكنه الوحيد الذي صدحتْ حنجرته وتغلغلت كلماته في روح التشادي، وتأثر به كل الفنانين والمستمعين. يفضلونه على الآخرين؛ لأنه قال كل شيء قبل أن يأتوا، ولأنه غنّى للوطن وللإنسان. يردد عشّاقه بأنه لم يغنِّ لغير الوطن قط.

في أغنيته الشهيرة بعنوان 'أبناء تشاد Enfant du tchad' يلخص معاناة الشباب في بلد أنهكتها الحروب الأهلية، وقتلت عشرات الآلاف من شبابه بعدما حرمتهم الطفولة، حيث وجدوا أنفسهم في أتون الحروب وهم بعدُ صِبية. يقول أحمد في أغنيته والتي غناها بالفرنسية وجرتْ على كل الألسن حتى حفظها الأُميّون: 
"يا ابن تشاد.. لقد عانيت كثيراً..
شعب شهيد يعيش في الجحيم
ثلاثون عاماً من الحرب والبؤس.
لقد خدعوك، واستخدموك ضد نفسك
أقنعوك بالخطب المعسولة 
وسال دمك من دون رحمة".

هذه الأغنية اعتبرتْ صفعة في وجه كل الطغاة الذين مروا على حكم البلاد، بل إن الجالس على الكرسي وقتها شعر بألمها في خده، وتسبب ذلك في استبعاد الفنان من الفرص والهبات التي تمنحها السلطة.


رغم أن صوته هو الأشهر في بلاد لا تعرف الكثير عن الغناء، إلا أنه الأكثر غياباً عن التتويجات والتكريمات. فحتى الآن لم تقم الحكومة بأي بادرة من أجل خلود هذا الذي أضحك وأبكى التشاديين على مدى عقود. كرّمته مدينة أبشة حيث رأى الحياة، بتعميد البيت الثقافي هناك باسمه، لكن العاصمة أنجمينا ـ التي عاش فيها أغلب حياته ـ ظلت صمّاء في وجه مطالبات ذويه بتكريمه أو تسمية مكان ثقافي باسمه.

عاقبته السلطة بالتجاهل، وبعد موته ما زالت تُعاقبه بالنسيان، لأنه لم يطبّل ولم يغن للسلطان، وإنما للوطن، والوحدة، والحب، والمرأة التشادية، والسلام. في آخر أيّامه لامه المقربون وحذروه من عواقب عدم الغناء للسلطة الجديدة، فغنّى أغنيته "أبشة دار السلام" التي يرحب فيها بقدوم الرئيس لزيارة مدينته التي وهبته كل شيء. بدا أنّ الرجل يغني لمدينته أكثر من الوافد، الذي لم يذكر اسمه باطمئنان وصفاء، رغم ترداده في الأغنية "لنطمئن القلب، نصفي الضمائر". 


في العام 1993 بينما البلاد كلها تغني للمحرر الجديد، للرجل الذي جلب الديموقراطية. وحده من أتاه الوحي وتنبأ في تعويذته "ابن تشاد" التي أشهر فيها قلقه من إنتظار أبناء وطنه لشخص ما ليأتيهم بالحرية. قائلاً: "يا أيها التشادي/ لقد عانيت كثيراً… لا تنتظر من شخص أن يأتيك بالحرية/ لقد خدعوك وجعلوك تقاتل ضد نفسك". هذه التعويذة أزعجت القادمين من الهضاب الشرقية فأعلنوا أن بيكوس "هبراوي" وقاطعوه ومنعوه من كل فرصة. لكن نشيده 'Enfant du tchad' أصبح الأغنية الوحيدة التي يحفظها أغلب التشاديين وما زالت تعويذة للصمود ومحاربة الطغاة والديكتاتوريين. وبعد ثلاثين عاماً من التعويذة، آمن به أولئك الذين كفر بهم، وعرضوا أغانيه على المحطات علّهم يوحدون بلداً مزقوه طوال ثلاثين عاماً ـ والفنان قد قال "بعد ثلاثين عاماً من الحرب تنتظرون من يحرركم".

لا توجد اليوم أغنية يمكن أن نطلق عليها أغنية تشادية، فمنهم في الساحة من لا يعرف شيئاً عن الغناء. جوقة من الزاعقين الذين يرددون ألقاب من يمطرون رؤوسهم بالأوراق المالية. وبسبب هؤلاء أصبحت المهنة بحد ذاتها محتقرة، لأنهم يتسّولون من خلال هذا الصراخ الذي يعجب البُلداء الذين امتلكوا المال بلا جهد أو استحقاق.

اليوم بالكاد تسمع شيئاً تفهمه في هذه البلاد؛ فمغنِّي البلاط الجمهوري، ثلة من السودانيين الذين فشلوا في الحصول على إذن في الأسواق الشعبية بالخرطوم، يصدّون آذننا بجعير متواصل لا تفهم منه سوى سرد أسماء الوزراء وأولاد الجنرالات وعاهراتهم. ومن تبقى من الفنّانين التشاديين صاروا مقلدين للأغاني السودانية، وسارقين لكلمات الآخرين على أمل أن يتلقوا الصفعات بالأوراق المالية. 

أحمد بيكوس كاراتيه
ولد أحمد في 19 من تشرين الأول/ سبتمبر عام 1959، لأب من الجلابة/ جعليين / وأم ماباوية وكلاهما من قبائل منطقة ودّاي التشادية. شغف بالكاراتيه وشاهد أفلاماً كثيرة عنها وفي إحدى الليالي وهو عائد من السينما برفقة أصدقائه، قال: سوف أتعلم الكاراتيه وأصبح مثل البطل "بيكوس" وهو اسم بطل ذلك الفيلم، فصاحَبه اللقب واشتهر به.

في بدايات السبعينات كانت الموسيقى الكونغولية هي الأشهر في إفريقيا، فتأثر الشّاب بأغانيهم، وصنع عوداً بيده ثم بدأ يقلد إيقاعاتهم.. ورغم رفض والدته بأن يصبح مغنياً في مجتمع لا يفهم الفن ويزدري الفنانين، واصل حلمه وبدأ يجري خلف كل من أحمد حمزة وجلالي اللذين كانا يقيمان حفلات ويُدعيان إلى كبرى المناسبات، ولعبت الصدفة لعبتها ذات يوم: تأخرا فانتهز الفرصة ليشغل الجماهير حتى وصولهما، لكن الجمهور أكدوا له أن لديه موهبة خاصة وأنهم يحبون أغانيه. وهكذا انطلق يكتب ويغني ويحيي الحفلات.

درس احمد الابتدائية في مدرسة بولولو في العاصمة ثم واصل الاعدادية في مدرسة "فرانكو آراب" في أبشة. مرّ بصعاب وتعليق للدراسة بسبب الحروب، لكنه تمكن من التخرج من المدرسة الوطنية لإعداد المعلمين بأنجمينا، وعمل مدرساً للغة الفرنسية في ثانويات كبيرة مثل ثانوية فليكس أبويه، وثانوية الحرية.

تأثر بالموسيقى السودانية التي لم تكن بعيدة من حيث ترعرع في مدينة حدودية، لكنه تأثر كثيراً بالأغاني الكونغولية.. وكان مريداً لـ"كوفي أولميدا" أحد أنبياء الموسيقى في أفريقيا جنوب الصحراء.

"أمي .. أرجوك سامحني"
أغنيته هذه عدّتْ كالشجن لكل الأجيال التشاديين. لطالما تعلّق الرجل التشادي بأمه أكثر من والده الذي مات أو سيموت قريباً في بلد رازحٍ تحت وطأة الحرب. يدرك الرجال هنا باكراً أن آباءهم سيختفون أو يدفنون قريباً، فتعلقوا بالمرأة التي حتماً ستقدم لهم أكثر مما يستحقون، وتخنقهم لفترة طويلة فكرة أنهم لا يستطيعون إيفاءها حقها. في البداية لم تغفر له أمّه إصراره على التمسك بالعود، لم تكن ترتاح لذلك في بلد يحتقر الفنانين، غير أنه كان يردد لها "مع الوقت تتضح الأشياء"، مرّ الزمن واتضحت فغفرت له، تفهمت الأمر حين أصبح ابنها الفنان الوطني، وصارت تسمع صوته كل صباح. لكنه لم ينسَ غضبها لذا غنّى لأمه طالباً منها المغفرة. قائلا بشجن تسبب في بكاءنا لأكثر من مرة.
أمي التي كبرتني. أمي التي ربتني..
الدنيا خاينة والزمن جافي 
أمي أمي.. أرجوك سامحني.

في 17 يناير 2001، مات بيكوس في الخرطوم، ودُفن هناك إلى جانب أقاربه، الذين يسكنون في حي كوكو في حاج يوسف، ثم اتصل رئيس الجمهورية شخصياً لنقل رفاته إلى أنجمينا. مات بيكوس وحيداً، مخذولاً، يائساً، ومرّت 30 عاماً منذ أن قال "دنيتنا كمّلت في عذاب/ عمرنا رايح في السراب/ متين يا الله يا ربي نرتاحوا".
ارتاح أخيراً بعدما عانى طوال حياته.

مناجاة
اكتب عنك وأناجيك يا أحمد يا بيكوس. نحن لم ننسَك. ما زلنا نسمعك، وما زلنا نبكي لعُمرنا ونبكي للوطن.. قبل يومين كنت قد خرجت صباحاً لأتمشى علّني أزيل بعضاً من القلق عن كاهلي، وإذ مررت ببيت صغير بلا جدران، بيت في الضواحي الفقيرة للعاصمة اجتمعت فيه العائلة حول راديو قديم تظهر أسلاكه من وسطه، كانوا يشربون الشاي بينما ينصتون لحنجرتك. كم نحتاج اليوم لفنان صادق مثلك، في هذا الزمن الموحش الذي يردد فيه اللقطاء أسماء لقطاء آخرين ويعدّونه فنّاً.

رحلت قبل 19 عاماً لعدم تحملك هؤلاء البلداء المفعمين بالجهلة، وكما حذرتنا فهم لم يأتوا بالحرية وإنما بالرداءة. ما زالوا جاثين على صدورنا ينشرون التفاهة ويعدمون القيم الفنية.  والآن وأنت بعيد هناك في قبرك البارد، وفي غفلة منك بعدما سهوت قليلاً، تسللت إلى المسرح شرذمة من لقطاء الهوية والباحثين عن الذلّ عبر حناجرهم الصدئة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها