الإثنين 2020/12/14

آخر تحديث: 10:26 (بيروت)

عرب "إدفا 2020".. سوريا بين حربين أو أكثر

الإثنين 2020/12/14
increase حجم الخط decrease
اختتمت، الأحد، فعاليات الدورة الثالثة والثلاثين لمهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية (إدفا). المهرجان الأكبر للأفلام الوثائقية في العالم، شهدت دورته المنقضية عرض 229 فيلماً توزّعت على مسابقاته وبرامجه المتعددة. في الجزء الثاني (راجع هنا الجزء الأول) من تقريرنا، نستعرض المشاركات العربية في المهرجان، إنتاجاً ومواضيعاً.

خلافاً للحضور القوي للأفلام السورية في المسابقات الرسمية لمهرجان إدفا في دوراته السابقة، لم تسجّل الإنتاجات السورية أي حضور في أقسام المهرجان المختلفة. لكن الشأن السوري والسينمائيين السوريين حضروا في أربعة أفلام، ثلاثة منها لسوريين. البداية مع الفيلم الوحيد المشارك في مسابقات دورة هذا العام: "هذا المطر لن يتوقف أبداً" (102 دقيقة، إنتاج أوكراني لاتفي ألماني قطري) للمخرجة الأوكرانية ألينا غورولفا (1991)، المتوَّج بجائزة أفضل فيلم في مسابقة "ظهور أول". يتتبع الفيلم أندريه سليمان، الشاب الكردي الأوكراني (والده سوري ووالدته اوكرانية) الذي فرّ مع والديه من الحرب في مدينته الأصلية، الحسكة السورية، إلى مسقط رأس والدته في ليسيكانسك بأوكرانيا، ليجد نفسه في حرب أخرى في منطقة دونباس شرقي أوكرانيا بين الانفصاليين الموالين لروسيا والقوات الأوكرانية. لا نرى القتال الفعلي أبداً، إلا أن أصداءه حاضرة دائماً. أولاً وقبل كل شيء، عائلة سليمان منقسمة بسبب الحرب. ينتشر أعمام أندريه في أنحاء أوراسيا: أحدهم في ألمانيا، والآخر في كردستان العراق والآخر في سوريا. يريد والدا أندريه أيضاً العودة، لكن الجزء السوري من العائلة يخبرهما ألا يرتكبا هذا الخطأ.

بعد اختباره العيش بين حربين، اختار أندريه التطوّع في الصليب الأحمر لتقديم المساعدات الإنسانية لسكان دونباس، في محاولة يائسة منه للتوفيق بين عالم السلم وعالم الحرب، وأسلوب الحياة التقليدي وأسلوب الحياة المعاصر، ورغبته بالانسحاب والوقوف على خط الحياد وبين رغبته بالمبادرة والإقدام، ونسيان عائلته، التي توزّعت في مختلف أنحاء العالم بسبب الحرب، والتواصل معها. فبعض أقاربه كُتب عليه تجرّع مرارة الحرب، والآخر يحاول الهروب منها، والبعض الآخر يقرّر النضال في سبيل ما يؤمن به، لكنهم جميعاً ما زالوا عالقين في "المنطقة الرمادية" التي مزقتها الحرب. ممزقًا بين ماضيه وروابطه العائلية ومسؤولياته، يحاول أندريه إيجاد الطريق لمستقبله، فهل ينجح في إيجاد سبيلٍ للهروب منها وقطع عتبة البلوغ؟ وهل بقي شيءٌ من هويته المحطّمة أم أنه فقدها تماماً؟ من خلال محاولته إظهار كيف تغيّر الحرب فرداً واحداً، يوضّح الفيلم كيف أثرت الحرب على جميع أفراد أسرة أندريه، كما يوضّح انعكاساتها الأوسع على البشرية.

القصة التي يرويها الفيلم مليئة بالمواضيع المثيرة: حرب روسيا ضد أوكرانيا، والحرب الأهلية في سوريا، وتقرير مصير الأكراد. ولكن بدلاً من الخوض في سياسات الصراعات، يقدم الفيلم منظوراً فنياً مذهلاً لما يعنيه العيش في حالة دائمة بين الحروب. تقول المخرجة: "الفيلم الوثائقي السياسي يحاول إقناع المتفرج بشيء ما، لكني حاولت ألا أحكم على أي شخص واستكشفت المواقف النفسية لمجتمعي تجاه الحرب". "هذا المطر لن يتوقف أبداً" فيلم مذهل، في تصويره الجميل ومونتاجه الذكي، يشرع في كارثة الحرب من خلال رحلة شخصية، ويهزّ المتفرج بين لحظات خفية من الفرح والألم. يتآلف في هذا الفيلم المؤثر، التقاليد والحداثة، فداحة الموت وإرادة المضي قدماً. قصة قوية لا تفلت متفرجها، إذ تشهده على الدمار والخسائر المؤلمة للحروب وكيف تؤثّر في كل شيء.


في فيلمه "أرض غيفار" (87 دقيقة، إنتاج فرنسي قطري) يرسم السوري قتيبة برهمجي خريطة لجوء لبطله في فرنسا، حيث تأخذ الاستعارة المجازية المعتادة حول محاولات المهاجرين الجدد للاندماج وتثبيت الجذور، واقعاً مادياً فعلياً أثناء محاولة غيفار وأسرته زراعة الخضر في حديقة مشتركة. ينحدر غيفار من سوريا وقد بدأ مؤخراً العيش في إحدى ضواحي مدينة ريمس في فرنسا مع صديقته وابنه الصغير. يقرر استئجار قطعة أرض في حديقة صغيرة على أطراف مشروعٍ سكني لزراعة الخضروات الخاصة به، ولإبقاء نفسه مشغولاً. في شرفة شقته الصغيرة، يقوم بزراعة شتلات البطيخ والكوسا والباذنجان بعناية قبل نقلها إلى قطعة أرضه الجديدة. على مدار الأربعة فصول التي نتابع فيها غيفار، نكتشف الجهد الذي يتطلبه هو وشتلاته لترسيخ الجذور في مكان جديد. حميمية المكان في حكاية الاغتراب هذه (منزل العائلة والحديقة المجتمعية هما الموقعان الوحيدان في الفيلم) تجعل الكآبة التي يشعر بها جيفار وعائلته وأصدقائهم السوريين ملموسة أكثر، إذ عليهم التّكيف سريعاً مع موطن جديد، فالعودة إلى سوريا ليست ضمن الخيارات المتاحة أو الممكنة. في مشاهد موجزة مشحونة بالمعنى، نعاين عائلة تبذل قصارى جهدها لبدء حياة جديدة، وترك حياتها القديمة وراءها، والتعامل مع كل التحديات التي تصاحب هذه التغييرات.

يركز الفيلم على حياة اللاجئين بعد استقرارهم وكيف يتفاوضون على أدوارهم الجديدة في المجتمع الذي انتقلوا إليه. المثير في هذا الوثائقي، ابتعاده عن كونه حكاية "سمكة خارج مياهها" أو "صراع ثقافات". إنها قصة زوجين يتحدثان الفرنسية، وهما بالفعل على دراية بالثقافة الفرنسية وقدما إلى فرنسا للاستقرار فعلاً. رواقية غيفار ودأبه في استنبات أرض جديدة لا تنتظر أحداً، هما ما يجعلان الفيلم ممتعاً. يُظهر الفيلم أنه في كثير من الأحيان، كما هو الحال مع محاولات الاندماج الثقافي، لا تكون مقاومة المهاجرين ولكن العقبات التي تفرضها الدولة والمجتمع هي التي تؤخر حدوث ذلك. يثبت ذلك محاولات غيفار في أن يكون مواطنًا "منتجاً"، حيث يتم دفعه، قرب نهاية الفيلم، إلى "وظيفة خدمية" يُرى أنها أكثر ملائمة له كمهاجر.

في اللحظات الأخيرة من الفيلم عندما نرى كيف عانت الحديقة لأن غيفار اضطر إلى تولي وظيفة أخرى، يتزايد شعور بالأمل والتحدي والتأكيد على فشل السياسات الزراعية للدولة الفرنسية، على طريقة الدب الذي قتل صاحبه، بإصرارها عدم تشجيع مَن يريد الاستمرار في الزراعة رغم كل الصعاب. كمهاجر، حاول غيفار ضخ دماء جديدة في فنّ يحتضر، في وقت يرثي ميشال ويلبيك حال مزارعي بلده في روايته الأخيرة، تستمر ابتسامته العارفة، في مواجهة التعنت الفرنسي، كأنه يرى بالفعل الأسف الوطني الذي ستؤدي إليه هذه الأنواع من السياسات الزراعية العقابية.

باختياره استبدال مرونة المهاجر بقدرة اللاجئ على الصمود، يغوص "أرض غيفار" في القوة الغامضة التي تكمن في الأرض، وقدرتها على إحياء رابطةً لا يمكن وصفها بين إنسانٍ منفيٍّ اقتلعت حياته من جذورها، ومحيطه الجديد الذي يعيش فيه. يطرح سؤال الأرض، والذي يترافق غالباً مع الحاجة لتنصيب الحدود: هذا لك، وهذا لي. من ناحية أخرى، تكتسب استجابة الأرض لجهود غيفار وأسرته أهمية رمزية وجمالية، وتمنح بطريقة غير متوقعة إجابة باسمة على رثاء ميشال ويلبيك.


خريطة مختلفة تقطعها مادونا أديب في فيلمها "دع جسدي يتكلَّم" (10 دقائق، إنتاج بريطاني)، ولا خريطة هنا سوى جسدها نفسه. يدور عمل السينمائية السورية المقيمة في بيروت حول الكويرية والجسد والمرأة في علاقتهم بالنظام السياسي الأبوي الذي تعيش فيه. فيلم شخصي وحميمي وشجاع عن جسد أنثى دمشقية لطالما جذبته الفتيات، ثم بزغ فيه ثديان لم يرغب بهما أحد، وعاقبته السلطة بعد ذلك لمخالفته القانون. تزور أديب طفولتها الدمشقية في لقطات أرشيفية خلال استكشافها القمع الممارس بحق جسدها، اجتماعياً وسياسياً، في سوريا الأسد، الأب والابن. لا كلمات كبيرة ترفق بها أديب فيلمها. تقول: "لا يمكنني تغيير العالم، لكني أعتقد أن جعل الأشياء مرئية هو ما يُحدث التغيير. أقل ما يمكنني فعله هو أن أكون مرئية حتى يشعر المثليون الآخرون المعنيون بالأمر بأنهم ليسوا وحدهم".

Let My Body Speak Trailer from Scottish Documentary Institute on Vimeo.


أما آخر الأفلام الأربعة فهو أعظمها تأثيراً وأطولها إقامة في الذاكرة، "بحر أرجواني" (67 دقيقة، إنتاج ألماني) لأمل الزقوت وخالد عبد الواحد (كتبنا عنه من قبل)، فهو مثال نموذجي للتدليل على أن مقطع فيديو بطيء التحميل في "يوتيوب" يمكن أن يكون أعظم دراما في العالم. أمل الزقوت كانت على متن قارب مكتظ بالمهاجرين، في رحلتها للوصول إلى أوروبا، بالتهريب. قبل الوصول إلى ساحل ليسبوس مباشرة، بدأ القارب بالغرق. هذا الفيلم يوثّق دقائقها الثقيلة في مياه البحر بانتظار الإنقاذ. فيلم مذهل يستحق العودة إليه في مقال منفصل.

تونس.. عنصرية وسياسة
في فيلمها "كان عندها حلم" (90 دقيقة، إنتاج فرنسي) تتناول التونسية رجاء العماري جانباً من المأزق التونسي في تجربتها الديمقراطية الأولى عقب الثورة. يتابع الفيلم غفران بنوس، وهي تونسية في الخامسة والعشرين من عمرها، سوداء، تعيش في أحد أحياء الطبقة العاملة، أثناء قيامها بجولة انتخابية في الفترة التي تسبق الانتخابات الوطنية. أمضت بنوس حياتها في تجربة غياب المساواة الطبقية والعنصرية والتمييز الجنسي، وبعد تصدّرها الأخبار في عام 2018 بسبب حادثة عنصرية أثناء عملها كمضيفة طيران، انضمت إلى حركة نسائية وأصبحت ناشطة نسوية. الآن تخوض المعترك السياسي، مسلّحة بتجربتها الشخصية واجتماعات لا نهاية لها ونقاشات حامية مع أفراد الأسرة والأصدقاء وزملاء الحزب.

تلازمها الكاميرا دائماً، بين نشاطها السياسي ويومياتها العادية، وفي الطريق يتكشّف وضع البلد المنقسم حيث لا يثق الناس بديمقراطيتهم ولا يتوقف المجتمع عن أبويته المتسلِّطة في تعامله مع النساء والمختلفين. مع ذلك، يبقى ضجيج المناقشات والجدل البيزنطي غالباً في صميم التأكيد على التجربة الديمقراطية التي تحياها تونس، دوناً عن بقية رفاقها في ثورات الربيع العربي.


العراق.. إرث الحروب
من العراق، شارك أحمد عبد (1994) بفيلمه "القصة الخامسة" (90 دقيقة، إنتاج عراقي قطري) وحصد عنه جائزة "الاتحاد الدولي لنقاد السينما". يستند الوثائقي إلى قصص عراقيين بسطاء من مختلف الأجيال شهدوا صفحات دموية من تاريخ العراق الحديث. خاض العراق ما لا يقل عن أربع حروب منذ الثمانينيات، شهد المخرج إحداها عندما كان طفلاً. في الفيلم الشاعري والرقيق، يتحدّث أحمد مع عراقيين آخرين عن تجاربهم خلال تلك الحروب، وعقود من الخوف والصراع والثورات، وطرق مسدودة وأحلام مجهضة لأجيال شابة تعيش مشاكلها قبل أن تدركها، والإرث الفادح للفساد السياسي والتناحر الطائفي.

ما الذي يتبقى من بلد دمّرته الحروب لعقود؟ سؤال معلّق وإجابته صعبة. حاول المخرج في صغره صرف انتباهه عن حقيقة الغزو الأميركي لبلاده، فاخترع أبطالاً خارقين أنقذوه في أربع قصص. لكنّه تخلّى عن هذا الوهم في القصة الخامسة. بهذا المعنى، يعمل الفيلم مثل مشرط لفتح جراح استفحلت بغياب المعالجة. لا يستطيع مراهق إخراج صورة الجثث من رأسه. شابة تتحدث عن قتالها داعش مع القوات المسلحة الكردية. يتذكَّر كهلٌ كيف كانت وجوه القتلى حين دفنهم. تترافق القصص مع اللقطات الأرشيفية في شظايا فيلمية ومتتاليات حلمية، ثوثّق الدمار الجسدي والنفسي كما تلتقط الأمل بغدٍ أفضل. رعبٌ وجمال، أهوال وتأملات، خراب ورجاء.


فلسطين.. حمام الخليل وعمدة رام الله
في فيلم "سماوات فوق الخليل" (55 دقيقة، إنتاج هولندي)، يتتبع الهولنديان إستير هيرتوغ وبول كينغ، على مدى 5 سنوات، الحياة الخانقة لثلاثة صبيان فلسطينيين في مدينة الخليل بسبب الاحتلال الإسرائيلي. عامر يحب الحمام، لأن بإمكانه الطيران حيث يريد، بينما لا يتمتع هو وشقيقه أنس بتلك الحرية. يربّي الصبيان، البالغان من العمر 11 و7 سنوات، الحمام على سطح منزلهما المجاور لمنزل مستوطن إسرائيلي. كل تحركاتهما مراقبة بواسطة برجي مراقبة إسرائيلي. في لحظة يلعب الشقيقان بدعة وخفة، ثم في الدقيقة التالية يتواجد جنود الإحتلال على بابهم لأن المستوطن ضاق بلعبهم. غير بعيد عنهما، يعيش مروان بجوارمستوطنة إسرائيلية أيضاً، ويعاني الاختناق ذاته. في تسجيله يوميات الاختناق الفلسطيني، يوثّق الفيلم قصة نضوج جنباً إلى جانب جذور التأقلم القسري لأفراد مجتمع تحت الضغط مجبرون على العيش إلى جوار قاتليهم.

إلى فلسطين أيضاً يذهب المخرج الأميركي ديفيد أوست وفيلمه "العمدة" (89 دقيقة، إنتاج أميركي بريطاني) لتسجيل يوميات رئيس بلدية رام الله موسى حديد. حديد مسؤول محبوب وأحد مشاهير مدينته، تتابعه الكاميرا وهو يحضر المواعيد ويقوم بالترتيبات لاحتفالات عيد الميلاد ويستقبل الأمير ويليام في زيارة رسمية. لكن حديد أيضاً مهتم بإصلاح أبواب مدرسة، ويخطط لتركيب نافورة في مركز المدينة، ويعقد اجتماعات مرحة حول الفراغات والمساحات في شعار المدينة. لكن رام الله ليست مدينة عادية، وشيئاً فشيئاً، يتضح التناقض بين الواقع المحلي اليومي وحقل الألغام الجيوسياسي الذي تجد رام الله نفسها فيه.

يلتقط الفيلم استعجاب حديد حين سمع برغبة دونالد ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس، كما يبرز دفاعه الحماسي عن القضية الفلسطينية خلال زياراته إلى واشنطن وديربان. في مشهد آخير، نجد أنفسنا وسط هجوم بالغاز المسيل للدموع من قبل قوات الاحتلال، تحت صوت قنابل الغاز والرصاص المطاطي، تجري الصحافة الدولية مقابلة مع حديد عبر بث مباشر. يحافظ على هدوئه : "مهما فعلوا، الأرض لنا، والمدينة لنا". وثائقي جذّاب يكشف زاوية مهملة من الواقع اليومي القاسي للاحتلال، في خضم محاولته الإجابة عن سؤال كيف تدير مدينة إذا لم يكن لديك بلد أصلاً؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها