يجري كل شيء كما لو أننا فقدنا، في أعقاب كارثة لا تنفك تحصل، كل المعالم أمام صور تلتهمنا. أمام التاريخ الذي عشناه، سلسلة أحداث لا ينفك عنفها يتحدّى العقل واللغة وإمكانات الصورة، يجب إعادة مساءلة الصورة بلا كلل. ما أخذه منا الحدث في عنفه، ما أخذه من أجسادنا وقلوبنا وعقولنا، تستطيع الصور أن تأخذه إلى أجل غير مسمى. في لبنان، يبدو دوماً وكأنّ الكارثة حصلت وأنها ستحصل، سلسلة كوارث سابقة وتالية عاشتها الأجيال كلها، منذ أكثر من قرن، وتحول دون أي إمكان انتماء للواقع والمكان والزمان. في الفيزياء، "إن الحدث يتكوّن إذا حصل أو وُجد شيء ما في مكان معيّن وفي لحظة معيّنة(...)، محدّد بحسب موقعه في الزمان والمكان(1)". عنف الحدث ينطوي على انفصال للمكان والزمان والزمان-المكان، وأيضاً للغة التي يفترض بها أن تأخذه في الاعتبار أو الصورة التي يفترض بها أن تمثله. هذا التباين بين الحدث العنيف وتمثيله يُلحظ بنوع خاص في مشروع للفنانة بولا يعقوب، صيف 88، الذي نُفذ عام 2006 بالتعاون مع ميشال لاسير. بين عامي 1987 و1991، كانت بولا يعقوب معاونة مصوّر حربي من وكالة غاما في بيروت. فيما كان هذا الأخير يؤطّر مجال العمل، موثقاً الحدث لحظة وقوعه، أكان قصفاً أم انفجاراً، استحال على يعقوب أن تلتقط صوراً عن مسارح القتال. كان اتجاه نظرها ينحرف وكانت تصوّر مباني أو أزقة مهدّمة، فسحات جغرافية تصبح أعراض الخوف (الصورة 1). في مشروعه اليوم الثامن الذي اتخذ عام 2010 شكل محاضرة-أداء، يتابع طوني شكر التأمل في زمان-مكان الكارثة التي شكّلها لبنان خلال الحروب المتتالية التي تعرّض لها، والتي لا يمكن تمثيل أحداثها بشكل مواجه بل "جانبي": "المرجع الذي أنوي استعماله مأخوذ من ريتشارد الثاني، عندما تقوم بوشي خادمة الملكة بنصح هذه الأخيرة بالنظر جانبياً (بشكل مائل) لرؤية ظلال الألم(2)". لأن إلقاء النظر على هذه الصور لا يبدو ممكناً إلّا من زاوية محددة، كالتي تسمح بالنظر إلى الجمجمة بتقنية الأنامورفوسيس في لوحة هانس هولباين الشهيرة، السفراء (1533)، التي تنظر إلينا بدورها، من دون أن ترانا، كتعبير عن نظرة عمياء، مترجمةً استحالة التحديق إلى الكارثة أو الموت: "واقفاً في وجه لوحة السفراء بريشة هانس هولباين الابن، (...) ما لفت حقاً انتباهه هو (...) الشكل غير المتبلور بين الرجلين الواقفين (...). شعر بأنه مُراقَب من الخلف. النقطة التي التفت فيها كانت المكان المحدد من حيث يصبح الشكل غير المتبلور والمشوش واضحاً وجليّاً. (...) الجمجمة غير المتبلورة، (...) نظرت إليه، لكن ليس بعينيها، بما أنه ليس لديها عينان، ليس لديها إلّا تجويفان فارغان، لكن بكلّيتها. الجمجمة غير المتبلورة تنظر إلينا وكأننا تفاهات(3). (الصورة 2)
اليوم الثامن يعمل بالتالي كـ"كوكبة"، أو "مجرّة" حيث العناصر المستدعاة (صورة، أغنية، قصيدة...) هي "نقاط مضيئة، نجوم (...)، تدور من حول مركز، من حول ثقب أسود". كصورِ من الماضي التي نتمسك بها خشية أن تختفي، كل صورة تصبح "نقطة مضيئة لمّاعة، تقيم روابط مع صور أخرى"، وتكشف عن الثقب الأسود، "ما لا يمكن قوله"(4).
(صورة 1-صيف 88 (2006 ، يعقوب/ لاسير).
هذه الثقوب السوداء في التاريخ الماضي والمعاصر تتحدّى النظر، بالأمس وبالحاضر.في خلال الحرب اللبنانية (1975-1990)، فهم المخرجون السينمائيون الذين كانوا في قلب الحدث طابعه غير المعاصر، وصعوبة مواجهته لحظة وقوعه. الصور التالية للحدث التي يقترحونها تقلب أي حدود بين الواقع والوهم، بين الوثائقي والخيال. أمام واقع بعيد المنال، تستعمل أفلام جوسلين صعب ومارون بغدادي وبرهان علوية لغة المرئي والخفي، مدركةً إخفاق النظر. بعد الحرب، تلقي الصور نظرة على الحاضر والماضي، لكنه ماض يتعايش مع الحاضر، حيث يبدو أن الصور تسبق دوماً الحدث وتليه. هنا لا نذكر السينما التي تسرد، وتعيد خلق، أو "تعيد تشكيل" أحداث من الماضي، واضعةً هذا الأخير بعيداً عن الحاضر، غير أننا نذكر بالأحرى ابتكارات سينمائية وتشكيلية تسبر عناصر وأشياء وصوراً زائلة من هذا الماضي، بحيث أن أي إعادة تشكيل للحدث لن تكون ممكنة إلا بإدخال استحالة الوصول إليها، واستحالة جعل الصورة والصوت متطابقين. تتقاسم سينما الحرب وما بعد الحرب الفسحة نفسها، الصور المشوشة نفسها العاجزة عن التقاط المرجع بوضوح. عام 1980، في همسات، ناحت ناديا تويني على أنقاض بيروت، مدركةً الخطر المرتبط بجاذبيتها: "بيروت ما عادت إلا أنقاضاً. مع الوقت، تصبح الأنقاض جميلة. لكنني لن أعتادها.(5)"، في حين أن الصورة التي يقترحها بغدادي تعكس عدم توافرها.عمّ نتجت هذه التشكيلات المشوشة المكوّنة من صور الحرب وما بعد الحرب؟ في كتابه انسحاب التراث عقب الكارثة الفائقة(6)، يذكر جلال توفيق الكارثة الفائقة، التي تتعدى آثارها حدود إدراك الوعي لها، والتي تظهر بمصادفة "فيسَوقِها لعوارض انسحاب التراث(7)". توفيق يركّز بالتالي على انحراف النظر وأيضاً على انسحاب المرجع، اللذين نجدهما في صور الحرب وما بعد الحرب: "كان هناك نوعان أساسيان من التشكيلات المشوشة و/أو المهملة في الصور والأفلام والأشرطة المصورة المنتجة في زمن الحرب الأهلية اللبنانية.
-التشكيلات التي عادت إلى الحرب الأهلية نفسها كانت تُعزى إلى عامل واحد أو إلى العديد من العوامل التالية: الظروف الخطرة التي التقطها فيها المصوّر، إزاحة النظر بسرعة فائقة عند رؤية الجثث المشقوقة البطون والمتحللة، قُرب الموتى (...)
-تشكيلات ما بعد الحرب الأهلية كانت تُعزى أساساً إلى انسحاب ما كان مصوّراً.
كالعديدين، كان قد اعتاد أن يرى الأشياء بسرعة الحرب. إذاً في نهاية الحرب الأهلية، في خلال فترة معينة، لم يلتقط أي صور ولم يصوّر أي أشرطة فيديو، في انتظار أن يتعلم النظر من جديد بإيقاع هادئ. دامت فترة التكيّف هذه عامين كاملين. لكن حتى بعد أن اعتاد هذا المصوّر اللبناني النظر إلى المباني وعيش الأحداث على إيقاع السلام، هو الذي شكّل بطريقة كلاسيكية الصور التي التقطها في بلدان أخرى، كانت تبدو دوماً صوره للخراب في لبنان وكأنّها التُقطت بعدسة مصوّر في خطر محدق، مصوّر داهمه الوقت فعجز عن التصويب: تشكيلات غير منتظمة وصورة مشوشة دوماً وتقريباً(8)".
هناك صور لا يمكنها أن تكون موجودة أو أن تُخلق إلّا بحركة دهشة أو ارتجاف. لا، الحرب ليست استعراضاً، والأنقاض التي نصادفها في أعقابها ليست في متناول اليد! كما أنها ليست قابلة للتبادل! تماماً كما أن الفرد الذي صعقته الكارثة لا يستطيع أن يكون وجه كومبارس، قابلاً للتداول! كيف لا نُهان بجمال الصور التي تجرؤ على النظر إلى الحدث وجهاً لوجه، من دون أن تنتأ حدقتها، بنظرة معصومة، والتي تتمسك بالواقعية، واضعة نفسها بمرتبة الابتكار أو السينما المعاصرين، معيدةً تشكيل الحدث في فظاعته بفضل كل الاصطناعات الموجودة في "الإخراج"، صور واضحة، أصوات صافية، فارضةً على المشاهد شعوراً لا يُطاق من الاشمئزاز والتدجيل؟ وكل هذا لإبراز "الموهبة" الثابتة التي يتمتع بها الذي يخلق هذه الصور، والذين يختارون معه الممثلين، ويبرّجونهم، ويُلبسونهم، ويطلبون منهم أن "يلعبوا لعبة" الحرب، وأن يقلّدوا ألم الآخرين، بمشاهد سريعة، وبطيئة، بحسب زواياتلامس البذاءة أحياناً. أي ردود فعل يتوقع صانعو الصور هؤلاء بعد أن عرضوا علينا صورهم الجميلة؟ في عمل لا مفرّ منه لمن يود محاولة إلقاء نظرة على ألم الآخرين، تُبرزسوزان سونتاغ "لا أصالة الجمال"، الذي "يصرف الانتباه عن واقع الموضوع كي يحوّله إلى الركيزة، معرّضاً للخطر مكانة الصورة كوثيقة. الصورة تبعث رسالة مزدوجة. تأمر قائلة: "أوقفوا هذا!" لكنها تعلن أيضاً: "يا له من استعراض!"(9) يبدو اليوم أننا نعيش في عالم الاستعراض الذي حلّ محل العوالم الموجودة، وحيث يُشترى كل شيء ويُباع، حتى الثقوب السوداء: "بالحكم على ما حصل في وسط بيروت الذي خرّبته الحرب، حتى الأنقاض، المتاهات، يمكن شراؤها وبيعها! إذا حافظ النظام الموجود في السلطة حالياً، النظام الرأسمالي، على هيمنته لفترة طويلة جداً، أتكهّن بأنه حتى الثقوب السوداء، التي رغم أنها ليست نفسانية، إلّا في أفلام وروايات الرعب الرديئة- هي روحانية، كما تشير زمنيّتها التي لا تقتصر على تسلسل الأحداث بل التي غالباً ما تكون متاهية، والتي لا تنتمي إلى الكون بل تحدّه، سيتم شراؤها وبيعها على يد سكان الكون (10)"...
حتى إن كتابة هذا النص، هذه الكلمات، هذه التواريخ، ذكرها، نَفَسها، همسها، تدعو إلى الدهشة والارتجاف... لبنان... 1975... تموز/يوليو... 2006... بيروت... آب/أغسطس... 2020 ... "الرؤيا المشوّشة للعيون الباكية. الشعور فجأة بأنه، مثلما تكون اللقطة المضاءة مباشرةً بمسلاط قاسية على النظر، فإن اللقطة المعدّة واضحة بشكل قاس"11. هل سنتعلم يوماً ما أن ننظر إلى العالم الذي ينظر إلينا بدوره؟ على هذا السؤال، لربما هناك جواب ممكن: "اكتفى الفلاسفة بترجمة العالم بطرق مختلفة، المهم هو تغييره".
الترجمة إلى العربية: ألين جبارة.
1-بول لانجوفان. "تطور الفضاء والزمن". مجلة الميتافيزياء والأخلاق. 19 (4)، 1911. هذه المقالة تشكل النسخة القصيرة لنص تم نشره بالكامل في سيانسيا، 19 (3)، الصفحة 31-54، وأعيد نشره في بول لانجوفان، الفيزياء منذ عشرين عاماً، باريس، دوان، 1923، الصفحة 265-300.
2- طوني شكر، "مظاهر أيقونية طيفية"، حوار مع إلين نارا دي واتشر، متوافر على
https://ellenmaradewatcher.com/2019/05/31/tony-chakar-spectral-iconic-appearances/
(تم الاطلاع عليه في 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2020) (ترجمتنا)
3-جلال توفيق، "مقابلة الجمجمة غير المتبلورة"، فورثكامينغ، بيركلي، كاليفورنيا. أتولوس، 2000، الصفحة 177- 178، (ترجمتنا).
4-طوني شكر. "اليوم الثامن، خلق الله العالم بسبعة أيام. هذا هو اليوم الثامن"، ليفربول بيينيال، كانون الأول/ديسمبر 2010 (ترجمتنا)
5-مقتطف من التعليق على فيلم همسات (1980 ) للمخرج مارون بغدادي، بقلم ناديا تويني,
6-جلال توفيق، انسحاب التراث عقب الكارثة الفائقة، باريس، لي بريري أوردينير، 2011.
7-المرجع نفسه، ص 12
8-المرجع نفسه، ص 62-63
9-سوزان سونتاغ، أمام ألم الآخرين، دار نشر كريستيان بورجوا، فرنسا، 2003، ص 84-85
10-جلال توفيق، "أنقاض"، ترجمه من الإنكليزية غسان سلهب، من كتاب نستطيع أن نصنع المطر لكن لا أحد أتى ليسأل: وثائق من أرشيف مجموعة أطلس، ميشال تييرو (مديرة)، معرض ليونارد وبينا ألين من جامعة كونكورديا، كندا، 2006، ص22.
11-جلال توفيق. "التصوير اللبناني بعد الحرب: بين انسحاب التراث والاقتحامات الخارقة للطبيعة"، مأخود من "شارد الذهن"، الإصدار الثاني، بيركلي، كاليفورنيا: مطبعة توومبا، 2003، ص 80-92، ترجمه من الإنكليزية غسان سلهب من كتاب "نستطيع أن نصنع المطر لكن لا أحد أتى ليسأل: وثائق من أرشيف مجموعة أطلس، جامعة كونكورديا، مكتبة كيبيك الوطنية، 2006، ص 88.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها