الثلاثاء 2020/11/03

آخر تحديث: 15:46 (بيروت)

فرنسا العلمانية وحرية التجديف

الثلاثاء 2020/11/03
increase حجم الخط decrease
عُرفت فرنسا تاريخياً بـ"الابنة البكر للكنيسة الكاثوليكة"، وحمل ملوكها تباعاً لقب "الإبن البكر للكنيسة" منذ عهد كلوفيس الأول، الملك الذي اهتدى إلى الايمان الكاثوليكي في نهاية القرن الخامس. تغير الأمر في القرن الثامن عشر، حين دخل أعلام عصر التنوير في مواجهة مفتوحة مع الكنيسة، وتحولت هذه المواجهة إلى حرب هوجاء في السنوات التي تلت اندلاع الثورة الفرنسية في 1789، وانتهت هذه الحرب العام 1905 مع تبني البرلمان الفصل بين الدولة والكنائس بصيغة الجمع. منذ ذلك التاريخ، تميزت فرنسا بعلمانيتها القصوى، وهي اليوم أكثر بلدان أوروبا علمانية من دون أدنى شك.
 
خاض كلوفيس حروباً شرسة ضد أعدائه، واتّخذ باريس عاصمة لملكه، وعند موته في العام 511 كان الحاكم الوحيد لثلاثة أرباع بلاد الغال. في السنوات الأخيرة من حياته،‏ سعى هذا الملك إلى تثبيت مملكته، فسنّ سلسلة من القوانين عُرفت بـ"القانون السالي"،‏ كما عقد مجمعًا كنسيًّا في مدينة اورليان حدّد فيه العلاقة بين الكنيسة والدولة.‏ توطّدت هذه العلاقة مع ارتباط الملَكية الفرنسية بالكنيسة الكاثوليكية بشكل كامل منذ عصر سلالة الكرولنجيين التي حكمت أوروبا من منتصف القرن الثامن إلى القرن العاشر. منذ ذلك العهد، اعتُبرت فرنسا "الابنة البكر للكنيسة" لأن ملوكها هم ورثة كلوفيس الأول، الملك الذي اعتنق الايمان الكاثوليكي، وجعله ديناً لمملكته. 

في عصر النهضة، أطلق البابا اسكندر السادس، على الملك شارل الثامن، لقب "ولدي البكر". بعدها، حمل كل من لويس الثاني عشر، وفرنسوا الأول، لقب "الابن البكر للكنيسة"، وفي العام 1562، أكدت الملكة كاترين دو ميديسيس للسفير البريطاني أن "مملكة فرنسا هي الإبنة البكر للكنيسة". بدأت هذه الصورة تتزعزع مع نشوء الحركة الإصلاحية ودخول البروتستانتية إلى فرنسا في القرن السادس عشر. فَتَحَتْ "العصبة المقدسة" مواجهةً مع الملك هنري الثالث، معلنةً أن فرنسا هي الابنة البكر للكنيسة. وأدى ذلك إلى سلسلة ما يُعرف بـ"حروب الدين"، وهي سلسلة من الحروب الدموية تواصلت بحدة حتى انتصار الثورة الفرنسية و"إعلان حقوق الإنسان والمواطن" الذي أصدرته الجمعية التأسيسية الوطنية في 26 آب/أغسطس 1789، وفيه أقرّت حرية المعتقد وحرية التعبد.

تطرّق هذا الإعلان إلى مسألة التجديف، أي ازدراء الدين، وكان الإعدام هو عقاب من يجدّف بحسب الشريعة التوراتية، كما جاء في الكتاب: "لا ترض منه، ولا تسمع له ولا تشفق عينك عليه ولا ترق له ولا تستره، بل قتلا تقتله، يدك تكون عليه أولاً لقتله، ثم ايدي جميع الشعب أخيراً" (تثنية 13: 9). قضى "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" بإلغاء تهمة التجديف قانونياً في حال عدم اخلالها بالنظام العام، وبدت "قضية الفارِس دولابار" منذ ذلك التاريخ آخر قضية تجديف شهدتها فرنسا. تعود تلك القضية إلى العام 1766، في عهد لويس الرابع عشر، بطلُها شاب من عائلة نبيلة يُدعى جان لوفيفر دولابار، اتّهم بالتجديف وبازدراء رموز الكاثوليكية، وهو في العشرين من عمره، وقضت المحكمة بإعدامه، فقُطع رأسه، وحُرقت جثته بعد تثبيت نسخة من كتاب فولتير، "قاموس الفلسفة"، بالمسامير على صدره. وذلك كردٍّ على الفيلسوف الذي دافع عنه، وكتب في هذا الدفاع: "ليس من العدل معاقبة الجنون بالعذابات التي يجب ان لا تُلحق إلا بأكبر الجرائم". فرّ فولتير إلى سويسرا إثر هذا الإعدام، وواصل حملة دفاعه عن دولابار، ورفع من شأنه، فبات رمزاً لحرية الوعي والتجديف في فرنسا منذ ذلك التاريخ.

حاولت الكنيسة التمسّك بسلطتها بعد اندلاع الثورة، وجاء الردّ عنيفاً مع حركة "التجرّد من المسيحية" التي رفعت شعار المنطق والعقل. نشأت هذه الحركة بعد سقوط الملكية، وعرفت مداها الأقصى في السنة الثانية للثورة، وتميّزت بحدتها. شنت هذه الحركة على الكنيسة الكاثوليكية حرباً هوجاء، فمنعت رجال الإكليروس من ارتداء لباسهم خارج الخدمة، ومنعت كل الاحتفالات الدينية خارج دور العبادة، وصادرت الكثير من أملاك الكنيسة وثرواتها، وسعت إلى فرض ديانة رسمية جدية هي "ديانة المنطق"، واحتفلت بتكريس هذا الدين الجديد في كاتدرائية نوتردام في باريس بعدما أطلقت عليها اسم "معبد المنطق". في 23 تشرين الثاني/نوفمبر 1793، صدر القرار بإغلاق كل كنائس العاصمة الفرنسية، وتلاه قرار يدعو إلى إغلاق سائر الرهبانيات، ونفي آلاف الكهنة خارج فرنسا. وأثارت هذه القرارات سجالاً واسعاً، وتصدّى لها عدد من كبار المفكرين الذي رأوا فيها تعدياً على الحرية التي نادت بها الثورة، وانتهى هذا الفصل الدموي بإعلان تثبيت حرية المعتقد والتعبد رسمياً في 6 كانون الأول/ديسمبر 1793، وعدم استثناء الكهنة من التعليم الحر.

تراجعت حركة "التجرد من المسيحية"غير انها لم تهدأ، ولم تستقر الأوضاع إلا في شتاء 1795 حين اضطرت الثورة إلى إعادة الاعتبار إلى حرية المعتقد بشكل كامل. تواصل الصراع بين السلطة المدنية والسلطة الدينية في العقود التالية، حيث سعت الكنيسة الكاثوليكية إلى التشبث بدورها التاريخي. خاطب الأب هنري دومينيك لاكودير، فرنسا، ودعاها باسم "الابنة البكر للكنيسة الكاثوليكة" في عظة ألقاها في شباط 1841 في كاتدرائية نوتردام في باريس، يوم كان "ابن الكنيسة البكر" الملك لويس التاسع عشر في المنفى. بعد بضعة عقود، في ظل الجمهورية الثالثة، قررت الحكومة جعل المدرسة الابتدائية "مجانية وإجبارية وعلمانية"، وعمدت إلى "علمنة الأماكن"، وأدى هذا القرار إلى نزع جميع الصور وكل ما له دلالة دينية من المدارس الحكومية. في خطٍّ موازٍ، اعتمدت وزارة التربية سياسة "علمنة المناهج" وأصبحت المواطَنة هي المرجعية وليس الانتماء الديني. تكرّس هذا التحول الجذري في العام 1905 حيث تبنى البرلمان الفصل بين الدولة والكنائس بصيغة الجمع. 

ثار الفاتيكان ضد هذا القرار، ورشق بالحرم جميع البرلمانيين الذين اقترعوا لصالح ذلك الفصل، واضطر بعدها مرغماً إلى القبول بواقع الأمر. هكذا انتصر ورثة عصر التنوير الذين خاضوا معركتهم الأساسية ضد سلطة الكنيسة، وبات أعلام التنوير بمثابة الآباء المؤسسين للجمهورية العلمانية. تميّز الخطاب العلماني الفرنسي بنبرته المتشددة الحادة منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا. قديماً، كانت الأمة الفرنسية هي الأمة المختارة لتنفيذ مشيئة الله، بصفتها الابنة البكر للكنيسة. وأصبحت في الأزمنة الحديثة الأمة التي عُهِدتْ إليها مهمة "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" الذي أقرّ بحرية المعتقد وحرية التعبد، كما أقرّ بحريّة التجديف. 

في حزيران/يونيو 1980، أحيا البابا يوحنا بولس الثاني قداساً في مدينة بورجيه الفرنسية، وفيه ألقى عظة تساءل فيها: "فرنسا، أيتها الابنة البكر للكنيسة، هل انت وفية لنذور معموديتك؟". وفي نيسان/ابريل 2005، رحل البابا يوحنا بولس الثاني عن هذه الدنيا، فدعت الدولة الفرنسية يومها إلى تنكيس أعلامها 24 ساعة حداداً، فاعترضت شخصيات سياسية مرموقة على هذا القرار. وقال أحد النواب الاشتراكيين انه يريد "علمانية" لا تشوبها اي شائبة، لا علمانية "النصف كم". من المفارقات، أنّ هذه العلمانية كرّست حرية المعتقد والعبادة، وبات الإسلام خلال قرن من الزمن، الدين الثاني في فرنسا، وبات في هذه البلاد أكثر من 2200 مسجد.

شكّل صعود الموجة الإسلامية في فرنسا حالة دينية جديدة لم تألفها البلاد منذ عقود، وأخذت هذه القضية بعداً جديداً في أيلول/سبتمبر 2005 حين نشرت صحيفة دنماركية 12 رسماً كاريكاتورياً تناولت النبي محمد بشكل أو بآخر، وذلك بعدما صرّح أحد الكتّاب بأنه لم يعثر على أي رسام يجرؤ على تصوير محمد لتزيين كتابه حول النبي. جاء ذلك بعد اغتيال المخرج الهولندي تيو فان غوغ على أيدي إسلاميين متطرفين بعدما حقق الأخير فيلماً بعنوان "الخضوع"، اعتُبر معادياً للإسلام والمسلمين. وكان الغرض من نشر هذه الرسوم الكاريكاتورية تأكيد حرية التعبير والنشر في أوروبا بالدرجة الأولى. في هذا السياق، نشرت جريدة "فرانس سوار" هذه الرسوم في اول شباط 2006، وتبعتها "شارلي إيبدو" بعد اسبوع، وأضافت إليها رسمًا ساخرًا احتل الغلاف وضعه الرسام الفرنسي الشهير جان كابو.
 
اشعلت هذه الرسوم صداماً حاداً في فرنسا، ودعا جاك شيراك الصحافيين إلى احترام المشاعر الدينية، وتبعت هذه الدعوة حركات احتجاجية عديدة تمثلت في رفع عدد من الدعاوى ضد "شارلي إيبدو"، غير أن السلطة القضائية رفضتها كلها بعدما اعتبرت أن الرسوم لا تنتهك حدود حرية التعبير. عادت هذه القضية إلى الواجهة العام 2008 بعدما أنجز أحد المخرجين فيلمًا توثيقيًّا حول هذه المسألة، وفي تشرين الثاني 2011، تعرضت مكاتب "شارلي إيبدو" إلى حريق متعمد قضى على جزء كبير من محتوياتها. تجدّد هذا الهجوم في مطلع 2015، وأدى إلى مقتل خمسة رسامين لهم جمهور عريض منذ عقود من الزمن، وهم كابو، فولنسكي، هونوريه، شارب، وتيغنوس. 

منذ تلك الحقبة، يدور بين المسلمين والعلمانيين في فرنسا حوار هو أشبه بحوار طرشان. يعجز المسلم عن تفهم العلماني، ويجد العلماني نفسه أمام خصم قديم يعود إليه اليوم بثوب جديد، وهو ثوب الإسلام. تجدّد هذا الصراع إثر قطع رأس المدرّس الفرنسي صمويل باتي على يد شاب شيشاني في 16 أكتوبر/ تشرين الأول، وذلك بعد عرضه على طلابه الرسوم الكاريكاتورية التي كانت نشرتها من قبل "شارلي إيبدو"، في درس تناول حرية التعبير في فرنسا. أعاد هذا المدرّس إلى الذاكرة "الفارس دولابار" الذي قُطع رأسه وأحرقت جثّته بعد إدانته بالتجديف، ورأت الحكومة الفرنسية، مدعومةً من عدد كبير من المواطنين، أن هذه الجريمة هي في المقام الأول اعتداء على حرية التعبير، وقالت إنها ستدافع عن الحق في نشر الرسوم.

في هذا السياق، اتخذ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون موقفاً مشابهاً، وقال إن الديانة الإسلامية تعيش أزمة في مختلف أنحاء العالم. انتقد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هذا الموقف بعنف، وقال: "لا تستحق فرنسا وأوروبا بشكل عام السياسات الشريرة والاستفزازية والقبيحة التي ينتهجها ماكرون ومن ينتمون إلى عقليته نفسها". وفي السياق ذاته، اتهم أردوغان الدول الغربية بأنها تريد "إعادة الحملات الصليبية"، وقال إن "الوقوف في وجه الهجوم على النبي مسألة شرف بالنسبة لنا".

في الواقع، يصعب القول بأن فرنسا تريد "إعادة الحملات الصليبية". على العكس، يشهد السجال الذي يدور في هذه البلاد بأن الصراع يدور بين اتباع حرية المعتقد والحق في التجديف من جهة، والدعوة إلى احترام المشاعر الدينية من جهة أخرى. رأى رئيس أساقفة تولوز، الكاثوليكي روبير لو غال، ان "حرية التعبير لها حدودها"، وأضاف: "ليس من المسموح ازدراء الأديان، وها نحن نرى نتيجة هذا الازدراء. يجري صب الزيت على النار من خلال إثارة قضية هذه الرسوم الكاريكاتورية. علينا ان نهدئ كل هذا، لأن هذه الرسوم هي ضد الإسلام، كما انها ضد الإيمان الكاثوليكي". سارع زعيم حركة "فرنسا الأبية" جان لوك ميلونشون إلى الردّ على هذه التصريحات، وقال ان رئيس أساقفة تولوز يبرّر الجرائم ويطالب بالحد من حرية التعبير في التجديف على الأديان. 

من جهتها، رأت الاشتراكية كارول ديغا ان العلمانية وحرية التعبير والحق في انتقاد كل مؤسسة دينية أمور لا تنفصل عن الميثاق الديموقراطي الجمهوري، ولا تجوز مناقشتها. كذلك، اعتبر الاشتراكي جورج ميريك ان تصريحات أسقف تولوز تشكل تراجعاً في سياق علمنة الديانة الكاثوليكية، وأضاف: "حرية التجديف ليست فعلاً يُعاقب عليه، فهي حق من حقوق الجمهورية، يؤكّد حرية التفكير والتعبير. مجتمعنا ملتزم مبدأ علمنة الأديان الذي من شأنه أن يؤدي إلى عدم سيطرة أي معتقد إيماني على الحياة العامة".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها