الثلاثاء 2020/11/03

آخر تحديث: 13:51 (بيروت)

ساندرا لوكبير تطلق رصاصة الأدب على لغة الشركات

الثلاثاء 2020/11/03
ساندرا لوكبير تطلق رصاصة الأدب على لغة الشركات
عن لغة "الموارد البشرية" في شركة انتحر 19 من موظفيها
increase حجم الخط decrease
في مقدور الأدب أن يكون ملتزماً بلا أن يكون جلفاً، ووعظياً، ومرشداً، وبمقدوره أن يذهب إلى موضوعه، أو بالأحرى قضيته، مباشرةً بلا أن يكون مجرد توثيق لها، أي من دون أن تطيحه في حين طرحه لها. هذه خلاصة سريعة تنتج عن قراءة كتاب ساندرا لوكبير، الذي يحمل عنوان "لا أحد يخرج بندقيته" (دار سوي)، والذي تتناول فيه قضية "فرانس تيليكوم" الشهيرة. فبين العام 2006 والعام 2010، انتحر 19 موظفاً من موظفي شركة الاتصالات هذه، كما حاول 12 موظفاً قتل أنفسهم، بالإضافة إلى 8 موظفين عاشوا اكتئاباً شديداً. بعد رفع دعوى على الشركة، بتّت محكمة باريس فيها عبر مقاضاة ثلاثة من مدرائها بالسجن والتغريم بتهمة المضايقة المنظمة.

لقد حضرت لوكبير جلسات المحاكمة، وبالانطلاق منها، قررت الكتابة عنها. هذه الكتابة، الأدبية بالتحديد، أخذت منحى التدخل في المحاكمة نفسها، ليس للحديث عن وقائعها أو الواقعات التي عرضتها، إنما من أجل الكلام عن لغة السفاحين. لغتهم هي لغة "رجال الأعمال"، لغة الرأسمالية الشركاتية بنسختها الظلامية، أو على وجه الدقة، لغة إدارتها التي، وعندما تتطرق إلى ظروف العاملات والعمال، تبدو أنها لا تتكلم عنهم بل عن أرقام، يقرأها الناطقون بها في تقارير "الموارد البشرية".

تتمكن لوكبير من الإنباء عن هذه اللغة، التي، وبحسبها، هي لغة "اوشفيتيزية" بامتياز. في هذا الأمر، تصيب فعلاً، وهي، وبسببه، تفتح كتابها كأنها تريد نقل ما تشاهده في معسكر نازي في حين سرده على ألسنة المسؤولين عنه، وعلى رأسهم ديدييه لومبارد. فهذا الأخير، وعندما يُستفهم منه عن ظروف العمل في شركته، يجيب مستخدماً عبارات تنظيمية، لا تبدو على دراية بكونها تتعاطى مع موظفات وموظفين، من لحم ودم، بل تنتجهم كأدوات أو كإكسسوارات. بالطبع إنتاجهم على هذا النحو، لا يتعلق باستغلال قوة عملهم فحسب، بل، وأيضاً، ولأنه يتعلق بذلك، فهو يبديهم كأنهم لا شيء حَرفياً، يمكن تقليص عددهم، استبدالهم، وطردهم. وقبل كل ذلك، يمكن حشرهم في هرمية قاسية، وفرض ظروف عمل ساحقة عليهم.

يقول لومبارد إنه لم ينتبه إلى كون تنظيم العمل في شركته سيؤدي إلى قتل الموظفات والموظفين، إلى اغتيالهم انتحاراً. فهو لا يهتم سوى بمراقبة الربح. إذ يشير إلى أن شركته تحتاج، وعلى الدوام، إلى سيولة، الى تدفق نقدي، ما حملها مرات عديدة إلى إعادة الهيكلة، وأفضى الى التخلي المفاجئ عن عدد كبير من الموظفات والموظفين، فضلاً عن تغيير أدوارهم ومناصبهم. بالتالي، وعلى قول لوكبير، ثمة ماكينة ضخمة هي الشركة، ولتشغيلها، أو للحفاظ على تشغيلها، لا بد من وقت إلى آخر، من "نفضها"، عبر إخراج عدد من الأيدي العاملة، ما يجعل المال يدور فيها. وهنا، تبدو لوكبير أنها تحيل من هذه الماكينة إلى اوشفيتز، إلى "شرج العالم" (anus mundi)، كما عنون كييلار شهادته على أساس اسم كان يطلقه أحد الأطباء-القتلة على ذلك المعسكر حيث "يعمل".

في حين تتوقف لوكبير عند عبارات مديري هذا "الشرج"، عند منظميه، تبرز كأنها تنطلق في محاكمتهم أدبياً، في محاكمة لغتهم، التي لا تهيمن على شركتهم فحسب، بل على المجالات كافة. تقول لوكبير بما معناه أن هذه اللغة، وأينما حلت، ستحول مطرحها الى شبيه بذلك "الشرج"، لأنها ستضع كل شيء داخله في خدمة الإنتاجية والربح والتدفق النقدي فقط، اي في خدمة كل ماكينة ظلامية يصعب وضع حد لها في حين اندفاعها، يصعب التحكم فيها.

تحدد لوكبير معركة الأدب، ليس في مواجهة ماكينة الشركات على العموم بالطبع، بل في مواجهة لغتها، في مواجهة طغيانها. لكن، وبالاستناد إلى هذا التحديد، من الممكن سحب معركته عليه أيضاً: الأدب vs الأدب، بما هو مطرح للغة الماكينة نفسها التي تسيطر على عالمه، ليصير عقله من عقلها. فعلياً، وإن بدت المعركة الأولى في كتاب لوكبير جلية، فالثانية من قبيلها، بحيث أن الكاتبة قدّمت أدباً لا يركن إلى تلك اللغة لكي ينقدها، بل هو أقرب إلى محاولة لإطاحتها، لإطلاق رصاصة على قلبها! 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها