الجمعة 2020/11/27

آخر تحديث: 15:54 (بيروت)

"الـ23": ماذا حدث في النبطية؟

الجمعة 2020/11/27
"الـ23": ماذا حدث في النبطية؟
من تظاهرات النبطية.. قبل أيام من غزوة الشبيحة (علي علوش)
increase حجم الخط decrease
من خارج ذكرى ثورة 17 تشرين، وبلا أي مناسبة محددة في روزنامة الثورة والمأزق اللبناني المديد، جاء الفيلم الوثائقي القصير للزميل راني بيطار، عبر قناته الخاصة في "يوتيوب"، ليكون هو نفسه المناسبة والحكاية الدالّة المستمرة، الصالحة لأي زمن، عملياً لأي لحظة تالية على أحداث النبطية في 23 تشرين الأول 2019... لأنه فيلم "الـ23"، ولأن ما شهدته مدينة النبطية في جنوب لبنان، ذاك اليوم، وإن تَقاطَع مع الكثير من الأيام الدامية الحزينة في مناطق لبنانية مختلفة، مضمّخ بتفاصيل لا تشبه إلا النبطية وثوارها وشبّيحتها.

هنا سردية عن أحلام وسلطة وانكسار، فيها الملمَح اللبناني الجامع لكل من سار في تظاهرات الثورة، وبقيت في جسده وحياته وعائلته آثار قامعيها: الأزمة الاقتصادية، البطالة، اليأس من أن يتكل شاب على كفاءته واجتهاده ليبني مستقبله، الزبائنية والفساد، بؤر الجامعة اللبنانية، الطائفية وأحزابها، الإفقار، والحرمان من أبسط الحقوق والخدمات...

لكن شبان وشابات النبطية، الذين تحدثوا إلى بيطار في الفيلم، عبّروا أيضاً عن دوافع نَبَطانيّة بحته، في المدينة الواقعة تحت سيطرة "الثنائي الشيعي" أمنياً وسياسياً. وليس بلا دلالة أن المخرج اختار تصوير المقابلات في فضاء طبيعي مفتوح على ضفاف الليطاني، حيث عزف الشباب وغنّوا ورقصوا، فكانوا هُم، بلا رقيب، وحكوا...

يريدون حرية الرأي، حرية الاختلاف، ولو فقط لفظاً، بالكلام في سهرة من دون أن يأتي تنبيه من "مُحبّ" أن حاذر/ي فهذا الشخص "منهم"، وقد يوصل الكلام فيزعجونك أو يؤذون عائلتك. حتى النزر النسبيّ من هذه الحرية الذي ما زال متاحاً في بيروت وغيرها، في الإعلام وبعض الشارع وبعض الفن، حتى القليل الباقي الذي بات كثيرون يرونه عقيماً، مجرد تنفيس بلا نتائج أو حامل سياسي واجتماعي يكمّله على الأرض،... شباب النبطية محرومون منه. يريدونه، يتوقون إليه، كما ينشدون حرية الرقص والغناء والمأكل والمشرب والملبس والمعتقد، حرية الحياة التي يأخذها بعضنا كمُسلّمات.

المختلف الذي يبرزه فيلم بيطار، بكل بساطة وصدق، وبلا أي مغالاة في أي اتجاه، هو أن هؤلاء الشباب، الذين ضربهم أنصار "حزب الله" ورجال البلدية، بالعصي والهراوات في ساحة النبطية يوم 23 تشرين، كانوا خلال أسبوع منذ انطلاقة الثورة يظنون أنهم يتمردون على السلطة ككل، وأن ما يجمعهم مع "حزبيي" مدينتهم، من نقص كهرباء ومياه وتعليم جيد وطبابة، لا بد أن يكون أقوى مما يفرّقهم من "التزام". اليوم نرى كيف يطبّق نصرالله مقولته لجماعته "لن نجوع"، بدولارات "القرض الحسن" وبطاقة "الإمام السجّاد" في السوبرماركت وصيدليات "الهيئة الصحية" حيث تتوافر الأدوية وبالليرة اللبنانية. لكن شباب النبطية الثائرين الأبرياء، اكتشفوا في ذلك الأمس القريب، كيف أنهم ليسوا محكومين، ولا حتى جزئياً، بالسلطة التي انضمّوا إلى الثورة ضدها، بل بـ"مطاوعة جدد" يضمون في صفوفهم أقارب وعائلات ممتدة وأصدقاء وجيران عُمر بدوا وكأنهم يتعرفون إليهم للمرة الأولى. صورتُهم في مرآة مقعّرة متسخة، هي التي انبرت تضربهم وتكسّرهم، واستمرت في تهديدهم طويلاً بعد قيام شرطة البلدية و"معاونيها"، في ذلك اليوم، بإخلاء الساحة "استجابة للتجار الذي علت أصواتهم من أجل لقمة عيشهم بسبب إغلاق الطريق". بل ودعت البلدية في بيان "القوى الأمنية والجيش للقيام بواجبهم وفتح الطريق، وإلا سنضطر كما اليوم للقيام بذلك حفاظاً على مصالح أهلنا في النبطية". هذه القوى الأمنية التي أخبر الشباب أن عناصرها اعتصموا في السراي، قُبيل الاعتداء على شباب الساحة، وأقفلوا على أنفسهم البوابات. وعندها، استشعر المعتصمون خطراً مخيفاً محدقاً بهم، لكنهم لم يتخيلوا أن يحصل ما حصل. صدمتُهم بالضرب والأذى وازَت صدمتهم بأبناء الجيران والعمومة والخلّان، بشبان عرفوا البعض منهم أطفالاً، أبناء الحي الذين نزلوا بالعصي وتظاهروا بأنهم لا يعرفون هؤلاء الذين يضربونهم ويكسرون هواتفهم، بل يصيحون أن "أخرجوا من هنا.. أنتم ممولون من السفارات".

هنا، في النبطية، يوم 23 تشرين الأول 2019، كانت صيحات القامعين مختلفة، رغم أنها مألوفة: "هيهات منا الذلة"، لبيك يا نصر الله"،.. وبعد تحقيق "النصر" على مدنيين ويافعين عزَّل: "اللهم صلي على محمد وآل محمد".. كل هذا ليس في وجه عدو خارجي، ولا حتى في وجه خصم لبناني من "طائفة معادية" أو "حزب عميل"، بل في وجه أبناء الطائفة نفسها، وأبناء المدينة نفسها، وأحياناً العائلة نفسها. فكل صوت معارض، في السياسة كما في الثقافة والإيديولوجيا، مجرد إعلاء الصوت، هو خطر على "الوجود".. وجود من؟ ووجود لأي غاية؟ لا داعي للشرح.

شابة تصرخ في أحد "الهجّامة": "بتعرف الإمام الحسين؟ الحسين بيقلك تنزل تعمل هيك؟". ويكفي أن نسمع أحد الشبيحة في فيديو ضمن الفيلم يعلن انتهاء الحفلات والرقص والأغاني، "روحوا ع بيوت الزعماء اعملوا حفلات ونايتات".

مفردة "الزعماء"، التي هشّمتها ثورة 17 تشرين، ولو فقط بالشعارات، أُقحِمت هنا في سياق سوريالي، وإن ليس مستغرباً. هنا، تركت الدولة "تربية" محتجي النبطية لشبيحة النبطية، للأمر الواقع المُغتصَب على ما تقول "رنا" في الفيلم. المحتجون الذين، عندما رأوا كتيبة البلطجية متوجهة نحوهم، ظنوهم متظاهرين ينضمون إليهم، وحتى العصي اعتقدوا أنها علامة "حماسة زائدة". صبية ظنت أن هذا الذي يفك قطع الحديد، يريد أن يساعدها في تركيب المسرح، لكن لماذا يفكها وهي ركّبتها بطريقة صحيحة؟.. ثم طار الحديد فوق رؤوس الناس.

هي "رنا" نفسها التي قالت إنها كانت تحمل في قلبها "شيئاً" للمقاومة، وكلما سمعت بسقوط شهيد شعرت برصاصة في قلبها، لكن ما قبل 23 تشرين ليس كما بعده، وهي تعيد النظر في قناعاتها: "أرض محررة وشعب مستعبَد لشو؟ أرض محررة وشعب سادد بوزو لشو؟". هي أمّ لشاب عمره 15 عاماً صار يتلقى تهديدات. كانت تعلّمه أن له حقّاً يمكنه المطالبة به في الشارع، والآن باتت تخشى عليه إن خرج وحده. هي التي نزلت مع الشباب وجلست وإياهم على الأرض، في مقابل العصي، "كي لا يذهب هدراً كل ما فعلوه طوال أسبوع مضى".. وكل ما كانوا يفعلونه يوم 23 أنهم أرادوا تركيب مسرح في ساحة النبطية لاستضافة فرقة موسيقية من ثوار كفررمان المجاورة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها