الأربعاء 2020/11/25

آخر تحديث: 12:10 (بيروت)

"قوات" بشير الجميل: العودة الموسمية

الأربعاء 2020/11/25
"قوات" بشير الجميل: العودة الموسمية
لماذا لم يُلمَس أثر أعمق لخطاب جعجع العقلاني؟ (غيتي)
increase حجم الخط decrease
جريمة بشري، حيث اعتُقل شاب سوري بتهمة قتل ابن المنطقة جوزيف طوق، ثم الاعتداءات على لاجئين سوريين وممتلكاتهم ونزوحهم مجدداً من البلدة حيث لا مخيمات لهم بل شقق وغرف مستأجرة، تطرح أسئلة في عمق سردية الحرب اللبنانية. وتسائل أيضاً التراكيب الهشة للمجتمع والحُكم، المستمرة منذ "الطائف" مع تعديلات الأمر الواقع، وفي ظل كل ما يعصف بالبلد وجيرانه من أزمات وثورات وحروب. هل يحتوي الخطاب السياسي الانفجارات الجماعاتية المتنقلة، ولو بعد حين؟ أم أن هذه الانفجارات هي البراكين-البراهين الموسمية، على أن الخطاب نفسه بلا جذور تثبّته في أرضه الأهلية، فتقوض أصالته وتنسف فاعليته؟ 

لعل سمير جعجع، رئيس حزب "القوات اللبنانية" الأكثر حضوراً في بشري، من القيادات اللبنانية القليلة جداً، وخصوصاً المسيحية، التي أجرت مراجعة علنية لتجربة دفعت ثمنها دون سائر أمراء الحرب، سجناً وملاحقة وتهميشاً. ومنذ العام 2005، صاغ خطاباً دولتياً معقولاً جداً في الداخل، فيما موقفه من الثورة السورية على نظام الأسد و"البعث" نجح في التحرر من عقدتين مسيحيتين أساسيتين: النظر إلى الثوار السوريين باعتبارهم "البعبع" السنّي الناهض، والتماهي مع نظام الأسد باعتباره "ضمانة الأقليات" في المنطقة. إذ أقرّ جعجع باكراً بالقضية اللبنانية المشتركة مع معارضي نظام الأسد، من حيث المبدأ، في مقارعة المستبدّ البعثي الذي ارتكب ما ارتكب في لبنان. وبدا جعجع "حكيماً" في انسجامه مع مطالبة السوريين بالحرية وأبسط مقومات الديموقراطية وتداول السلطة، قارئاً في ذلك منفعة للبنان، ومسيحييه، من بعد كونه مطلباً إنسانياً وشعبياً محقاً، من دون أن يغفل الإضاءة دوماً على ضلوع مكوّن لبناني أساسي هو "حزب الله" في الحرب السورية ومسؤوليته عن نزوح عدد هائل من السوريين إلى لبنان.

ومع ذلك.. عند مفترق من نوع جريمة بشري الأخيرة، رأينا جمهور "القوات" يستنهض خطاب بشير الجميل، الكاره للسوريين كجماعة بشرية، وللاجئين و"أوساخهم" أياً كانوا، مناشداً إياهم، قبل نحو 40 عاماً، بأن ينصبوا خيمهم في الصحراء و"يفكّوا عن سمانا". كما أعاد الجمهور استذكار مآثر "القوات" العسكرية ضد "السوري" من زمن الثمانينات نفسه، و"الفلسطيني" أيضاً (لمَ لا؟ طالما أنها سيرة وفُتحَت). وبدا مُحرَجاً منغاظاً من مماحكات العونيين وشماتتهم في الخطاب "الرخو" الذي "أوصلنا إلى هنا" و"ظَلَم" جبران باسيل -المسيحي الحقّ- بشعارات 17 تشرين وتحديداً "لاجئين جوا جوا.. باسيل برا برا". بل سمعنا خطاباً رخواً، فعلاً هذه المرة، من جعجع، وقبله النائبان ستريدا جعجع وجوزف اسحق، ركّز على ضرورة البحث بين السوريين في المنطقة عن مطلوبين وسلاح، مع مطلب خجول وجّهه إلى الأهالي بالتزام القانون والبقاء تحت سقفه.

من نافل القول إن الجرائم تُرتكب في المجتمعات كافة، يقترفها أفراد من مختلف الهويات والانتماءات. وأن لبنان يغلي، منذ سنة على الأقل، بجرائم القتل والاغتصاب والسرقة. لبنانيون ضد لبنانيين، ولبنانيون ضد سوريين أيضاً. فما زالت لم تُنسَ قضية الطفل السوري الذي مارس لبنانيون انتهاكات جنسية بحقه على مدى شهور طويلة وهو ساكت يخشى البوح، فيما المجرمون يتبجحون بفيديوهاتهم البشعة. ومن نافل القول أيضاً، إن أهل بشري، شأنهم شأن كل المدن والبلدات التي "تستضيف" لاجئين سوريين، يعملون كنواطير بنايات وفي ورش البناء والزراعة، لم يرحبوا بهم فقط لحبٍّ صافٍ اتجاهم، بل أيضاً لأنهم عمالة رخيصة، ترضى بأقل الضمانات المفترض بأي أجير التمتع بها، بل يرضون بانعدامها، وهو ما لا يُقنع العامل اللبناني، إن وُجد. والحقيقة أنه بالكاد مرت أسابيع ثلاثة على وفاة عامل سوري في ورشة بناء في بشري نفسها، إثر سقوطه من علٍ، ولو لم يمت، فعلى الأرجح ما كان ليجد من يتكفل به.

كما لا يختلف اثنان على انتشار السلاح وتفلّته في لبنان، بين اللبنانيين قبل "الغرباء". فلا يغيب اسم بلدة أو مدينة لبنانية، هذه الأيام، عن أخبار إطلاق النار وسقوط الجرحى والقتلى. وأهالي بعلبك والضاحية الجنوبية لبيروت باتوا ينظمون حياتهم ويسهرون لياليهم على إيقاع الاشتباكات العشائرية المتجددة كل أسبوع أو اثنين، والتي تظهر فيها أسلحة متوسطة وثقيلة. ومعلوم للقاصي والداني، تواري لبنانيين مطلوبين بجرائم مختلفة، في مناطق الأسرار الذائعة... إذن، المطلب "القواتي" بمسح تجمعات اللاجئين السوريين بحثاً عن مطلوبين وسلاح ليس ذا وجاهة، إلا أنه لاقى ترحيب الحد الأدنى، بل ربما كانت القاعدة الشعبية تنتظر ما "يتفوق" على المنطق العوني لشفاء الغليل. في حين أن الخطاب "القواتي" المفترض أنه راسخ منذ عشر سنوات على الأقل، لم يصمد أمام الذاكرة المزمنة للحرب الأهلية.

المؤكد أن العدالة يجب أن تأخذ مجراها. والمجرم، أياً كان، يجب أن ينال العقاب المناسب، بالقانون.

لكن، بالعودة إلى السؤال عن تأثير الخطاب السياسي في أحداث من النوع البشراوي الأخير، وقبلها، في حزيران 2019، في دير الأحمر، تبرز أيضاً جدليات "تفاهم مار مخايل" بين العونيين و"حزب الله"، الذي لم يستطع احتواء إشكالات منطقة لاسا-جبيل، مثلاً، إثر تمدد سكّان شيعة في أراضي وقف المطرانية المارونية، ولا حال دون إعلاء بلدية الحدت شعار "لا إيجارات ولا بيع إلا لمسيحيين"... كذلك التحالفات السابقة بين "المستقبل" و"القوات"، وبين "التقدمي الاشتراكي" و"القوات"، وغيرها في الخريطة اللبنانية المتبدلة بلا هوادة، لم تجد صدىً ميدانياً أهلياً حقيقياً، إلا في تغطية التصدعات بلواصق واهنة. وما إن تُفُكّ هذه التحالفات، أو تتأطّر بأولويات لحظية، حتى تبدو جماهيرها أكثر أريحية في التخاطب والاشتباك وفقاً لصُور ماضٍ لم يُحلّ ولم يُعالج إلا كما يُطلب من الحلاق-المطهِّر علاج مرضى السرطان.

الأرجح أن واحدة من المشاكل الكبرى في العلاقات السياسية، والاجتماعية والثقافية، في لبنان، تتمثل في الخطاب السياسي الفوقي (مهما كان جميلاً ومتوازناً وعقلانياً)، بمعنى تدبيجه على مستوى الزعامات، على أن تلتحق/تقتنع به الرعية حُكماً. والأفدح أن الالتحاق يحصل فعلاً، وأحياناً يستمر سنوات، لكن محكّاً غرائزياً واحداً كفيل بتحرير الجماعة من سياسيي اليوم، لتتلبّسها أشباح الأمس، حتى أن القيادة الراهنة نفسها قد تتكوّر وتتقلّص للحظات، خاشعة أمام رهبة الموقف، قبل أن تعود لتُمطر فوق أرضها ما يركّد الغبار.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها