الإثنين 2020/11/02

آخر تحديث: 11:44 (بيروت)

كلود شيسون.. شاهد على نكبة فلسطين ومسافر بين الحضارات

الإثنين 2020/11/02
كلود شيسون.. شاهد على نكبة فلسطين ومسافر بين الحضارات
"كانت القوات العربية قادرة على تحقيق نصر في فلسطين.. لكن العرب تخاذلوا"
increase حجم الخط decrease
في الطابق الخامس من بناء تاريخي يقع قبالة مجلس الشيوخ الفرنسي، كان يعيش السياسي الفرنسي كلود شيسون، في مبنى تاريخي عريق في شارع فوجيرارد من الدائرة الخامسة، يطل على حديقة اللوكسمبورغ وسط العاصمة الفرنسية. ولكل مبنى في هذا الشارع قصة عمرها قرون، من بدايته عند بوليفار سان ميشيل، ونهايته عند بوليفار مونبرناس في الدائرة السادسة. وكنت أزوره هناك كلما أردت حواراً عميقاً حول السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط. وفي ذلك البيت الواسع ذي السقوف والأبواب والنوافذ العالية، تعيش بيئات مختلفة تعكسها التماثيل واللوحات الفنية والتحف الأثرية وأدوات المطبخ والسجاد. آثار فنية من شرق آسيا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط، والذين يقدمون القهوة في ذلك البيت لا تختلف تفاصيل سحناتهم عن تلك التماثيل، يتنوعون بقدر ما تختلف التفاصيل، ويتشابهون حين تتقاطع وتلتقي عند الثقافة. آسيويون وشرق أوسطيون وأوروبيون، ليسوا خدماً، وإنما من أفراد العائلة التي تألفت من السفر الدبلوماسي الطويل من فيتنام الى فلسطين والجزائر.

يقترب شيسون من أندريه مالرو صاحب رواية "الشرط الانساني" و"مذكرات مضادة" وزير ثقافة الجنرال ديغول. وهناك أكثر من نقطة تقاطع بينهما، ليس فقط أنهما عاشا أهم أحداث القرن العشرين، قرن الانهيارات الكبرى والحروب الكونية والانتصار على النازية والنهوض الانساني بعد الحرب العالمية الثانية، بل التأثر بثقافات شرق آسيا البعيدة عن المركز الكولونيالي. ويعد شيسون من أكثر مسؤولي فرنسا السابقين في تلك الفترة، منتصف تسعينيات القرن الماضي، إحاطة واهتماماً وتعاطفاً مع العرب وقضاياهم التي عايشها من حرب فلسطين العام 1948، وحتى حصار بيروت العام 1982، مروراً باستقلال الجزائر العام 1962.

كان شيسون، الرجل السبعيني الأنيق، يشعل غليونه بتبغ لاذقاني (نسبة إلى اللاذقية حسب تعريفه)، يحصل عليه من مزودين خاصين. تبغ طبيعي خال من كل ما هو عطري. وذات مرة عرضت عليه سيكارة حمرا سورية فشمّها وكان رد فعله أنه أحبها واعتبرها من العائلة ذاتها التي ينتمي اليه تبغ غليونه. وقبل الدخول في أي حوار، كان يبدأ حديثه دائماً من حصار بيروت العام 1982، حينما تدخلت فرنسا من أجل إجلاء منظمة التحرير من بيروت، ووضعت ثقلها للضغط على اسرائيل من أجل عدم ارتكاب حماقة بتصفية الزعيم ياسر عرفات وقادة منظمة التحرير الفلسطينية، وكان شيسون في حينها وزير خارجية فرنسا (تغير اسم وزارة الخارجية في عهده إلى وزارة التعاون الدولي) في أول حكومة للرئيس فرانسوا ميتران الذي وصل إلى الحكم في مايو/أيار 1981. وأول زيارة قام بها الرئيس الفرنسي إلى الخارج كانت إلى اسرائيل، وألقى حينها خطاباً تاريخياً في الكنيست لم يعجب رئيس وزراء اسرائيل حينذاك، مناحيم بيغن، والسبب أن ميتران طرح حل الدولتين، وتحدث صراحة عن "وطن" للفلسطينيين في حين كان العالم يعرف أنه صديق حميم لاسرائيل. وكشف شيسون في أحد الأحاديث، موقف ميتران الفعلي من عرفات: "كان ميتران يقول لي حين دخلت اسرائيل إلى لبنان، من مصلحة اسرائيل أن ننقذ عرفات. من مصلحة اسرائيل أن نبقي هذا الرجل حياً لأنه هو الذي سيعقد السلام مع اسرائيل، ولذلك عاد وأنقذه مرة ثانية في طرابلس، واستقبله في الأليزيه العام 1989، حين أعلن عرفات أن الميثاق الوطني الفلسطيني تجاوزه الزمن".

وفي اللقاءات معه، كان شيسون يستعيد شريط ذكريات طويل جرى قسم منه في العالم العربي ومع العرب. ومع أن شيسون تنقل في مهمات رسمية، منها رئاسة الحكومة العام 1954 ومواقع دبلوماسية كثيرة في الخارج، كانت البداية فيها من سايغون في فيتنام العام 1952، فإن العالم العربي بقي محط إعجابه واهتمامه وتقديره. ويعتبر أن العلاقة بين فرنسا والعرب تجاوزت الماضي نحو المستقبل بفضل الأجيال العربية الجديدة التي ولدت في فرنسا، وهي تحمل الثقافتين والهويتين، وبذلك تشكل رصيداً إضافياً لفرنسا أولاً، قبل العالم العربي، لأنها متجذرة في أرض الولادة وثقافة الولادة، لكنها غير منقطعة عن هوية الآباء والأجداد.

ويتوقف شيسون عند محطات مهمة، ومنها حرب فلسطين العام 1948، واستقلال الجزائر العام 1962، وفي الحالتين تولى مسؤوليات حساسة تجعل من شهادته ذات قيمة تاريخية. وفي فلسطين امضى شيسون فترة قصيرة كمراقب دولي ضمن فريق الأمم المتحدة لمراقبة الهدنة من 8 آب/اغسطس حتى 2 اكتوبر/تشرين الأول، وكانت فترة الهدنة الثانية التي انتهت باعتراف العرب بالهزيمة. ويقول شيسون إن "القوات العربية كانت متقدمة على القوات اليهودية، وكانت قادرة أن تربح الحرب بسهولة، لكن حصل دعم دولي واضح لليهود، ومؤامرة ضد العرب قادتهم إلى الخسارة. وقد سجلنا نحن كمراقبين هذه النقطة. ورغم أن دورنا كان لمراقبة الهدنة التي أُقرت في الأسبوع الأخير من يوليو/تموز، إلا اننا سجلنا أن مسألة انتصار القوات اليهودية لم يكن بفضل قدراتها الذاتية، وإنما بسبب تدخلات دولية". ويضيف: "قبل العرب الهدنة، وكان ذلك أمر مستغرباً وغير مفهوم لنا كمراقبين. كان بوسع العرب أن يواصلوا القتال، لأنهم يقاتلون على أرضهم ومن أجل أرضهم، وبإمكانهم جلب إمدادات من مصر وسوريا والأردن ولبنان، لكنهم تخاذلوا". ويكشف شيسون: "كنا نقدّر أن مهمتنا سوف تطول كمراقبين، لا سيما أن الأمم المتحدة تدخلت في النزاع، لكن تم سحبنا على عجل، ولم نمكث أكثر من أربعين يوماً".

وفي ما يخص مهمته في الجزائر، فإن  المرارة التي عاشها في فلسطين رحلت معه حين عُيّن مشرفاً حكومياً على الجزائر من أغسطس 1962 حتى مايو 1966، وكانت وظيفته مديراً عاماً لمنظمة التعاون الخاصة في الجزائر، والتي أنيطت بها مهام عديدة، منها المساعدة في تطوير مناطق الصحارى في الجزائر، ولها وظيفة أخرى، بحسب أحاديث شيسون، تتعلق بما يشبه إدارة الفترة الانتقالية التي تم التوافق عليها بين فرنسا والجزائر في اتفاقية إيفيان، والتي نُظم خلالها نقل مهام الدولة الفرنسية التي كانت تستعمر الجزائر لأكثر من قرن، إلى الدولة الجزائرية الناشئة. وعاصر شيسون ثلاث حكومات جزائرية. حكومة يوسف بن خدة التي كانت تتحضر لحل نفسها في سبتمبر/ايلول 1962. والثانية حكومة الرئيس أحمد بن بله والتي تسلمت الحكم في سبتمبر، وحتى انقلاب هواري بوميدين على بن بله في يونيو 1965. ويحفظ شيسون ذكريات طيبة لفترة بن بله وعلاقته الشخصية به، ذلك أن بن بله كان على علاقة جيدة مع الجنرال ديغول، رغم أنهما كانا عدوين لدودين في فترة ما قبل الاستقلال، وكان ديغول يتصرف مع الجزائر وفق نظرية سلام الشجعان التي قبل على أساسها منح الجزائر استقلالها. ويروي شيسون أنه عايش الصراع الحاد الذي دار بين قيادات الثورة الجزائرية. بين بله وبومدين من طرف، وحسين آيت أحمد ومحمد بوضياف من طرف آخر، والتي كان انقلاب بومدين على بن بلة أحد تجلياتها، حيث تمكن قائد الجناح العسكري من كسب المعركة ضد الرئيس وتسليم السلطة للعسكر، الأمر الذي استمر حتى يومنا هذا. ويعتبر شيسون أن المدنيين فشلوا في الدفاع عن مشروع الاستقلال، وكان بن بلة وجهاً بارزاً لأنه تصرف كزعيم ثوري وليس كرجل دولة ورئيس لبلد خرج لتوه من استعمار كولونيالي مديد. ومع ذلك يشعر شيسون بتعاطف تجاه بن بله، خصوصاً حيال فترة سجنه من طرف رفاق الأمس، والتي امتدت 15 عاماً.

وفي الأحاديث التي أجريتها معه العام 1995، خرجتُ بثلاث نقاط مهمة تتعلق بالسياسات الفرنسية والدولية: الأولى، "عندما كنت وزيراً للخارجية، كنت مقتنعاً أنه لكي يكون لأي سياسة تقترحها فرنسا وزن، يجب أن تكون واضحة للغاية - بل ومعلن عنها بشكل استفزازي - حتى تثير ردود أفعال في الخارج. من بين ردود الأفعال هذه، قد يكون البعض إيجابيًا، مما يزيد من ثقل المبادرة وسلطة فرنسا"، وهذا ما أثار تباعداً بينه وبين ميتران الذي أعفاه من منصبه.

الثانية "أظهر التاريخ على مدى الخمسين عامًا الماضية أو أكثر أن الولايات المتحدة ليس لديها سياسة خارجية حازمة ومتماسكة، إلا عندما ترتبط قضايا السياسة الخارجية ارتباطًا مباشرًا بالسياسة الداخلية. في رأيي، حقيقة أن الأحزاب السياسية الأميركية اتخذت موقفًا بشأن جنوب إفريقيا والفصل العنصري، يعني أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة بشأن جنوب إفريقيا ستكون الآن واضحة المعالم. أعتقد أن مصلحة إسرائيل في الشرق الأوسط هي العامل الحاسم".

والثالثة، "لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن لدولة متحضرة أن ترفض حق تقرير المصير، وهو حق صالح لناميبيا وكمبوديا وأفغانستان والفلسطينيين والصحراويين. في اليوم الذي نتخلى فيه عن إيماننا بهذا الحق، كيف يمكننا التدخل في أي مكان في العالم؟ باسم أي مبدأ؟ باسم أي مبدأ يمكننا حتى أن نقدم وجهات نظرنا؟ الجنس البشري منظم في شعوب مختلفة، ولكل منها حقوق مشروعة غير قابلة للتصرف، من بينها حق تقرير المصير. لا أفهم كيف يمكن لدولة أن تنكر هذا من دون أن تكون شمولية. نستحضر الموقف الأميركي عندما كانت هناك إمبراطوريات استعمارية؛ كان لهذا الموقف قوة كبيرة في العالم، ومنح الأميركيين المكانة التي ينبغي أن يتمتعوا بها كأبطال لتقرير المصير والاستقلال".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها