الجمعة 2020/10/09

آخر تحديث: 18:03 (بيروت)

الأمل

الجمعة 2020/10/09
الأمل
"جادة باريس" في بيروت (علي علوش)
increase حجم الخط decrease


المكان: مدرسة رأس بيروت الابتدائية.

الزمان: 1984-1985
انهمكنا طوال ساعة "الفنون" في عمل جدّي. انكبّ كل منا على كرتونته البيضاء المربعة، مع كثير من التأني وتبديل أقلام التلوين، فيما بعضنا يستعير من رفاقه لونه المفضّل الذي جفّ لديه أو ما تفتقر إليه العلبة التي يملكها. التيمة: "لبنان الجديد". لكن هذا ليس الموضوع الذي شحذ هممنا، نحن الأطفال في مقاعدنا الصغيرة المتحلقة حول طاولتين مستديرتين كبيرتين. التكليف الفني هذه المرة حافِزُه الدخول إلى عالم سحري لطالما تابعناه كمؤمنين ملتزمين، عبر شاشة "تلفزيون لبنان" الوحيدة المتاحة. "عالم الصغار"، حيث كانت المذيعة مها سلمى تستضيف أطفال المدارس، مع أحد الفنانين، للغناء والرقص ومشاركة رسومهم ومواهبهم، تُعاونها شخصيات بأزياء "أرنوب" أو "ميكي" أو مهرجين ويُحتفل أحياناً بعيد ميلاد أحد الأطفال، في عالم/استديو مُزين وملوّن إلى حد البهرجة، على الأقل في عيوننا آنذاك وبمقاييس ذاك الزمن. وها هي مدرستنا تستعد لتسجيل حلقة في مبنى التلفزيون في تلة الخياط. وسيتم اختيار بضعة تلاميذ، لا الصف كله، لعرض رسومهم على الشاشة والحديث عنها، عن "لبنان الجديد". ورغم أني لم أُعرَف يوماً بموهبة "تشكيلية"، إلا أني كنتُ من المجموعة المختارة، ويا لذلك الشعور الغامر بالسعادة والزهو والرهبة!

كان "لبنان الجديد" في كرتونتي عبارة عن شارع طويل، أقرب إلى "كورنيش المنارة" الذي شكّل مساحة كزدورتنا الوحيدة تقريباً في بيروت، لأكل عرانيس الذرة أو البوظة، والذي علمت، على كَبَر، أن اسمه الرسمي "جادة باريس"، وكان قبل ذلك "شارع الإفرنسيين"، ورثناه عن حقبة الانتداب على طراز المدن المتوسطية الفرنسية، بالفاصل المخضوضر الطويل ذي النخلات الفارعة، والدرابزين الأزرق القديم (قبل جريمة استبداله بالفضّي البارد المتقوّس)، تطل عليه المنارة ومباني الجامعة الأميركية ودولاب مدينة الملاهي. لكن شارع الكورنيش، لمّا أنجزتُ عملي الفني الأشهر والوحيد، ورغم أنه كان البقعة البيروتية الأرحب والأحب على قلبي بفضل انكشاف البحر والسماء والحضور الرمزي للشجر والعشب، غالباً ما غرق في العتمة بعد غروب الشمس. فأعمدة إنارته، كما سائر بيروت الغربية، كانت أشبه بالنُّصُب التذكارية من زمن إضاءة الشوارع قبل الحرب. والكثير من الأبنية المحيطة بمنطقة الكورنيش مشوّه بآثار قصف أو رصاص. الفاصل الأخضر باهت ويابس، إلا ما قدّر الله. والنفايات تتراكم دورياً في هذه الزاوية أو تلك، يرميها أفراد من سياراتهم، أو تتفاقم كتلال مستوعبات مرتجلة، لأسباب معروفة في سياقات الحرب والفوضى و"حارة كل من إيدو إلو". لكن الشارع، في لوحتي، كان نظيفاً جداً. السيارات التي تعبره في الاتجاهين، جديدة وملونة وخالية من الخدوش والأعطاب. النخلات باسقة وشديدة الخُضرة. والمباني كأنها مدشّنة لتوها. ولو كان في الإمكان، لفاحَ من الرسم عطر الورد الذي "زرعته" بعناية في تراب الرصيف...

هكذا كان الأمل، في عز الحرب، ومن فرط الطفولة المجبولة بصنوف فرح منقرض، أو يفترض أنه كذلك، لولا أن بعض صِيغه تستعاد اليوم، خلافاً للمنطق والطبيعة، في غياب الكهرباء والمياه والأمن والفضاء العام، والأهم: في تقطّع الدوام المدرسي ومختلف أشكال القلق الوجودي والاقتصادي. أمل تحقق، لفترة سِلم أهلي وجيز، وتقريباً لمرة واحدة فقط. كان حقيقياً وخيالياً في آن. الأمل في أن الحروب لا تستمر إلى الأبد، حقيقي. وكذلك الإحساس بحتمية بقائنا في البلد. والخيال، وسط لجّة الاقتتال واللايقين، أننا سنحظى بالفرصة لنكبر في مدينة جميلة، منظّمة، قابلة لعَيشنا محترمين وسعداء، وأننا سنكون بخير.

جيل الأمل المخضرم هذا، الذي بدأ يتذوق بعضاً من نكهة العمل الثقافي والاجتماعي والسياسي "الصحي"، ومعنى الحراك الشعبي، في مستهلّ الألفية الثالثة... ومعه الجيل المولود في لبنان ما بعد الحرب، في مرحلة السّلم الخادع، ثم تنظيم التحركات والحملات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفيديوهات ساحات "الربيع العربي" وتظاهرات أزمة النفايات اللبنانية (التي ما زالت بلا حل).. هما اللذان ملآ الشوارع قبل عام بالتمام والكمال هاتفين "كلن يعني كلن" بجدّ هذه المرة، وبحرقة الإفلاس والبطالة وخط الفقر الصاعد والتعليم المهدد بشحّ الدولار والليرة معاً. صحيح أن بعضاً من هذين الجيلين امتطى الدراجات النارية، وغزا ساحات الاعتصام بالعصي والرصاص، وهتف باسم الطائفة والزعيم. لكنه، موضوعياً، أو كما بدا في لحظات نشوة 17 تشرين الأول 2019، انتمى، في مخيلة مجايليه، إلى كانتون المومياءات والديناصورات التي دمّرت البلد، في الحرب الأهلية أولاً، والآن بحروب أهلية صغيرة متنقلة، وبدولة مفلسة، وقانون معلّق، ومصارف بدّدت جنى الأعمار وما زالت تشبّح على الناس... وفوق ذلك جريمة انفجار المرفأ التي شطّبت وجه بيروت وقتلت أبرياءها، وكورونا الخارج على السيطرة.

الأمل الآن، وفي الذكرى السنوية الأولى لثورة غير مسبوقة في تاريخ لبنان، ومُجهَضة كما لم يتوقع أحد، وأيضاً كما توقعنا جميعاً، عبّر عنه سعد الحريري في مقابلته التلفزيونية الأخيرة. فهو، ابن معشر "كلن يعني كلن"، صورة الثورة وروح الحل وبيرق الإنقاذ من الانهيار. يصرّ أن دعوني أشكّل حكومة اختصاصيين لأن "الصيغة القديمة حيث الطوائف والأحزاب تعين ممثليها ما عادت تنفع". كرر كلمة "الانهيار" عشرات المرات كأنه لا يحفظ غيرها مفردةً للواقع الراهن. قال إن ترؤسه الحكومة ليس منافياً لمطالب الثورة والمبادرة الفرنسية المفترض أن تنأى بالحكم الجديد عن العصابة المعروفة، وإلا فماذا عن رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب؟ منطق! والعبرة في أعضاء الحكومة وكيفية ومصادر اختيارهم، قال، وركّز على أن الأمل حيّ، وأن مهمته، وحده دون سواه من نادي الحكم، الإبقاء على شعلته متقدة. كيف؟ ستة أشهر.. ستة أشهر فقط! ألا تصبرون على اختصاصيين بضعة شهور للنهوض بعد أزمة عمرها عقود؟ نعم، منطق!

لكنه ليس الأمل الذي يتداوله اللبنانيون في ما بينهم، ومرآته ابن أحد الأصدقاء، إذ قال المراهق لوالده: أقولها لك من الآن، سأهاجر ما أن أنهي مدرستي. وهو نفسه اللا-أمل الذي سُرّب في الصحافة عن مدير أحد المصارف اللبنانية: "قبل الحديث عن إصلاح القطاع، يجب أولاً أن يقتنع المودعون أنّ أموالهم التي أودعوها لدى المصارف لن تعود إليهم. اختفت. ثانياً، على أصحاب المصارف والمُساهمين والموظفين في القطاع تقبّل أنّهم أمام خمس سنوات، أقلّه، صعبة وخالية من أيّ ربحية. هذا النموذج انتهى ولن يعود إلى سابق عهده". الأمل، تلك الكلمة اللبنانية المراوغة. ولعل لبنان الجديد في مخيلات ناشئة الآن، هو لبنان القديم الذي، على علاته الكثيرة والعميقة... حتى هذا اللبنان تبدو استعادته مستحيلة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها