الإثنين 2020/10/05

آخر تحديث: 13:02 (بيروت)

جار الله عمر... الاشتراكيون يذهبون إلى الجنة

الإثنين 2020/10/05
جار الله عمر... الاشتراكيون يذهبون إلى الجنة
جارالله عمر
increase حجم الخط decrease
لم يكن أحد يتوقع أن تنتهي حياة جار الله عمر على ذلك النحو في 28 كانون الأول/ ديسمبر 2002، عندما تلقى رصاصتين في صدره داخل القاعة التي شهدت أعمال المؤتمر العام لحزب الاصلاح اليمني، بعدما أنهى كلمته أمام أعضاء المؤتمر. وسجلت كاميرات التلفزة عملية الاغتيال التي نفذها قاتل اعترف بأنه خطط العملية ونفذها. وأثارت العملية صدمة كبيرة وردود أفعال واسعة، كانت أبرزها الحشود الكبيرة التي رافقت جنازته إلى مدفنه في مقبرة الشهداء في صنعاء. وإن دل ذلك على شيء، فإنه يعبّر عن مكانة هذا السياسي والمثقف الذي يشكل حالة فريدة، وتليق حياته برواية تحكي سيرة الرجل الذي يلخص مرحلة من تاريخ اليمن بشطريه من لحظة قيام الثورة ضد الحكم الامامي في الشمال في أيلول/سبتمبر 1962، مروراً باستقلال الجنوب عن بريطانيا في العام 1967، وقيام الوحدة في أيار/مايو 1990، ومن ثم الحرب على الوحدة التي شنها الرئيس السابق علي عبدالله صالح في نيسان/ابريل1994.

لقي جارالله مصرعه عند المفترق الذي تولد عن حرب عام 1994، حيث تعرض الحزب الاشتراكي الذي كان أحد قادته البارزين إلى حرب إقصاء وتصفية، شنها شريكه في الوحده علي عبدالله صالح، بمشاركة من حزب الاصلاح الذي تشكل عشية إعلان الوحدة من تحالف مشيخة قبيلة حاشد والاخوان المسلمين، بالاضافة إلى جماعات دينية جهادية بعضها كان يقاتل في صفوف القاعدة في افغانستان إلى جانب اسامة بن لادن. وكان هدف الحرب على الجنوب انهاء شراكة الشمال والجنوب في الوحدة وسيطرة الشمال، وتحجيم الحزب الاشتراكي كقوة ذات نفوذ واسع وفاعل سياسي أساسي في الجنوب والشمال.

إلى حين اغتياله، كان جارالله عمر أبرز الوجوه السياسية في المعارضة، ولعب أدواراً أساسية في العقدين الأخيرين من حياته، وكانت البداية من مفاوضات الوحدة بين الشمال والجنوب، وبعدها المشاركة في حكم دولة الوحدة، حيث تولى وزارة الثقافة لفترة قصيرة في العام 1993، ومن بعدها مواجهة الحرب ضد الجنوب والخروج من اليمن، والعودة لتركيب الوضع السياسي وبناء حركة معارضة قوية "مجلس التنسيق الأعلى للمعارضة" المؤسس في  العام 1999، والذي كان يضم الحزب الاشتراكي، الناصريين، البعثيين، حزب الحق، واتحاد القوى الشعبية. وتطور هذا الجسم السياسي إلى "أحزاب اللقاء المشترك" التي هددت حكم علي عبدالله صالح عندما رشحت في العام 2006 فيصل بن شملان كمنافس له في الانتخابات الرئاسية، وكاد بن شملان أن يصل القصر الجمهوري لولا عمليات التزوير التي اعترف بها علي عبدالله صالح شخصياً. ومع ذلك، نال مرشح المعارضة نسبة 22% من الأصوات، ويعود الفضل الى جارالله في تأسيس هذا الائتلاف السياسي الذي رأى النور بعد اشهر على اغتياله، وإذ وضعته السلطة نصب عينيها، فالرجل على درجة كبيرة من الخطورة ويهدد بخلط أوراق اللعبة السياسية كاملة، عندما نجح في تكتيل الاشتراكيين والاسلاميين والعروبيين من ناصريين وبعثيين في ائتلاف سياسي واحد معارض للحكم ومن داخل لعبة الحكم الانتخابية. وبفضل هذا الاشتراكي المثقف صارت الاطراف المعارضة تتحدث عن "التداول السلمي للسلطة"، و"الرأي والرأي الآخر"، و"الحوار الوطني"..إلخ. أي أنه تمكن من تشكيل خطاب سياسي بمفردات جديدة وعصرية، بسيط بمفرداته، وبليغ ومؤثر في معانيه وأهدافه، ومبعث الخطورة ان هذا الخطاب صارت تتداوله مجالس القات، وصار على الألسن، حتى الاسلاميين والقبائل صاروا يتحدثون خطاباً اشتراكياً.

جارالله زعيم اشتراكي، لكنه متعدد، والفضل في ذلك يعود إلى مسيرته الشخصية منذ الولادة في عائلة كان الوالد فيها متعلماً في ظروف اليمن في الاربعينيات. وقال جارالله في شهادة له مع الباحثة الأميركية ليزا ودين: "كان والدي معلّماً في كتّاب القرية التي ولدتُ فيها، وهي تسمّى كُهال، تابعة لناحية النادرة بمحافظة إب، بالإضافة إلى القرية المجاورة، وقد كانت لديه وجاهة اجتماعية هامّة، حيث كان يقدّم الرعاية إلى أناس آخرين في المنطقة، بخاصة ممّن تحلّ بهم النكبات أو ممّن يريدون أن يتزّوجوا وغيرها، حتى إنه عندما توفّي خلّف وراءه ديوناً كثيرة، على الرغم من رهنه جزءاً من الأراضي الزراعية التي كانت بحوزته، وكانت هذه الديون عبئاً على والدتي التي تكفّلت برعايتنا أنا وأختي التي تكبرني في العمر".

وحين قامت ثورة سبتمبر ضد الإمامة في العام 1962، كان جارالله يكمل دراسته في صنعاء، لكنه انخرط فيها، وبعد ذلك انتسب إلى كلية الشرطة وتخرج فيها وشارك في الدفاع عن صنعاء في حصار السبعين يوماً الذي فرضه الملكيون بدعم من السعودية، ومن هذه المحطة دخل الحياة السياسية بقوة واستهوته حركة القوميين العرب، وساهم في تشكيل الحزب الديموقراطي الثوري اليمني (مسمى سابق للحزب الاشتراكي الحالي) وكان عضواً في اللجنة المركزية للحزب في مؤتمره الأول العام 1968. واعتقل إثر أحداث أغسطس 1968 في صنعاء لمدة 3 سنوات. وغادر إلى عدن العام 1971، وكانت لتلك الولادة السياسية، أثر كبير في الحياة السياسية في اليمن. وتجدر الإشارة إلى أن عدن كانت محطة النشاط السياسي والثقافي في اليمن خلال فترة الاحتلال البريطاني وبعد رحيله العام 1967، وساهم الحكم البريطاني للجنوب بخلق بيئة مختلفة عن كل ما هو سائد في اليمن وبلدان الخليج، وسمح جو الحرية والتعليم والثقافة في تشكيل حركات سياسية وثقافية وانشاء صحف مستقلة، وكانت حركة القوميين العرب في صدارة المشهد، وهي التي تولت قيادة الكفاح المسلح ضد البريطانيين، وقادت مفاوضات الاستقلال.

وفي عدن في العام 1972 جرى انتخاب جارالله في عضوية المكتب السياسي للحزب الديموقراطي الثوري اليمني في المؤتمر الثاني، وبدأ العمل من عدن من أجل تغيير النظام في الشمال، وتأسست الجبهة الوطنية الديموقراطية في العام 1975. وهي عبارة عن مكون للقوى السياسية الشمالية التي اتخذت من عدن قاعدة لتغيير الحكم في الشمال، تحت مبدأ أن ذلك هو المدخل الفعلي لقيام الوحدة، وأدى ذلك إلى حصول حروب بين الشمال والجنوب، أهمها حرب العام 1979 التي استدعت تدخلاً عربياً ودولياً من أجل وقفها. وهنا تجدر الاشارة إلى أن الحزب الاشتراكي اليمني الذي حكم الجنوب، تكون من الجنوبيين والمعارضين من أبناء الشمال، وكان على رأس هؤلاء عبد الفتاح اسماعيل الذي تولى رئاسة الجنوب العام 1985، وتمت تصفيته في أحداث كانون الثاني/يناير 1986، ما شكل نكسة للمشروع الجنوبي الذي فقد خلال المواجهات القسم الأكبر من كادره السياسي والعسكري.

تعرفتُ على جارالله في عدن بعد أحداث يناير التي حسمها الجناح المعارض لعلي ناصر محمد الذي رحل مع انصاره إلى صنعاء، وشكل حالة سياسية وعسكرية للضغط على الجنوب الذي تولى القيادة فيه علي سالم البيض. وكان جارالله في هذه الفترة من بين القيادات الحزبية اللامعة في وضع صعب اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، حيث كانت آثار يناير تلقي بثقلها في كل مكان. وكان جارالله مثل بقية القيادات يحاول لملمة الوضع المتشظي، ولذلك كان يطرح في كل لقاء فكرة الذهاب نحو التعددية السياسية والاقتصادية، وكان هذا الطرح جريئاً في حينه بسبب العلاقة الخاصة مع الاتحاد السوفياتي. وجاء هذا الكلام قبل عامين من سقوط جدار برلين وبدايات البيرويسترويكا. وأن دل هذا على شيء، فعلى حساسية هذا المفكر الذي اشتغل بدأب على نقل مسألة التعددية السياسية والاقتصادية والثقافية من إطار نقاش جلسات القات إلى اجتماعات القيادة الجنوبية التي أخذت بها، وأثرت هذه القضية في حوارات أجريتها لمجلة "اليوم السابع" التي كنت اعمل فيها من باريس، مع الأمين العام للاشتراكي والرجل الأول في الدولة علي سالم البيض، ورئيس الدولة حيدر ابو بكر العطاس، والرجل الثاني في الحزب سالم صالح محمد ورئيس الوزراء حينذاك ياسين سعيد نعمان. وكان هناك اجماع على ضرورة السير في طريق التعددية كونها ستشكل طوق نجاة للتجربة التي كادت تغرق في حرب الاقتتال الداخلي، وتطور النقاش حول التعددية إلى إحياء فكرة مفاوضات الوحدة بين الجنوب والشمال، وأصبح ذلك شرطاً من شروط الجنوب للدخول في المفاوضات، وتم قبل إعلان الوحدة اغلاق ملفات الاعتقال السياسي والمنفيين من الشطرين ووضع قانون للأحزاب والصحافة، وكان هذا أهم انجازات الوحدة، فبين عشية وضحاها وجد اليمن نفسه موحداً ولديه حياة حزبية وحرية صحافة، ورغم الهزات الكبيرة التي عرفتها تجربة الوحدة فإن انجاز التعددية ترك أثره الايجابي في التأسيس للحريات دستوريا.

في فترة الوحدة كان جارالله يشعر أن حلمه الكبير تحقق، إذ عاد من عدن الى صنعاء التي هرب منها، لكنها دخلها وهو صاحب قرار ورأي، وكان أحد أبرز الشخصيات التي يُعتد بها في كافة المنعطفات التي عرفها المشروع الوحدوي. رجل قادر على الاقناع وخلق مساحات توافقية، براغماتي، مناور، ومن هنا جاءت فكرة اللقاء المشترك ومجلس التنسيق بين أحزاب المعارضة بعد حرب 1994 التي شنها علي عبدالله صالح ضد الجنوب.
حين تولى جارالله وزارة الثقافة العام 1993، طلب مني تنظيم أمسية للشاعر محمود درويش في صنعاء. ووافق درويش وذهبنا إلى هناك بوقد من أصدقاء الشاعر، الكاتب فواز طرابلسي، الناقد صبحي حديدي، والسينمائي ميشيل خليفة، وانضم لنا هناك الشاعر ابراهيم الجرادي. وأمضى درويش قرابة أسبوع في صنعاء، وانتقل الى عدن، حيث أقام أمسية أخرى. وكانت الاجواء السياسية متوترة وتنذر بالحرب بين شريكي الوحدة. وقبل الأمسية بيوم، كنا في جلسة في منزل الكاتبة اللبنانية سلمى فخري، زوجة مدير المركز الثقافي الفرنسي في صنعاء، وفجأة صدر صوت انفجار قوي جداً اهتزت له صنعاء. وكان رد فعل الجميع ان الوضع انفجر وبدأت الحرب التي يترقبها الجميع. وحده الذي ظل جالساً في مكانه، هو جارالله عمر، وقال: لا نفجر الوضع ومحمود درويش في صنعاء، وتبين أن الانفجار هو عبارة عن خرق جدار الصوت لطائرة الكونكورد التي كانت تقل الرئيس الفرنسي في حينه فرانسوا ميتران، وكانت تعبر أجواء صنعاء في طريقها إلى جزيرة السيشل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها