الأحد 2020/10/04

آخر تحديث: 10:25 (بيروت)

ما لم يكتبه المؤرخون.. الوباء كصانعٍ لثورة 1919 المصرية

الأحد 2020/10/04
increase حجم الخط decrease
بعد أكثر من مائة عام على ثورة 1919 في مصر، يقدم الدكتور محمد أبو الغار سببا جديداً لاندلاعها.

الثابت تاريخيا أن تغيرات كبيرة طرأت على الاقتصاد المصري منذ بداية الحرب العالمية الأولى في عام 1914، وإعلان الحماية البريطانية على مصر، كان الفلاح المصري المتضرر الأكبر منها، حيث أدى ارتفاع الأسعار ونقص المحصول الزراعي إلى مشاكل كبيرة في الغذاء، أفضت إلى ضعف قدرة الفلاحين على مواجهة الأمراض، إضافة إلى مصادرة ممتلكاتهم من ماشية ومحصول من أجل المساهمة في تكاليف الحرب، ووصل الأمر إلى حد إجبارهم على زراعة محاصيل تتناسب مع متطلبات الحرب، وعلى القيام ببيع المحاصيل بأسعار تقل كثيرا عن الأسعار السائدة... صاحبَ ذلك ثراءُ عدد من كبار المزارعين والتجار والمستوردين. في الوقت نفسه انخرط عدد ضخم من الفلاحين في فيلق العمال المرافق للجيش البريطاني، وكان بالتراضي أول الأمر، ثم انقلب إلى تجنيد بالقوة والقهر، وتحول إلى نوع من السخرة، ما أدى بطبيعة الحال إلى ارتفاع حدة الغضب عند الفلاحين.

كل ما سبق معلومات تاريخية مثبته ومتفق عليها بين جموع المؤرخين، وكلها كانت عوامل أساسية من عوامل قيام ثورة 1919، الحراك الشعبي الأبرز في التاريخ الحديث الذى شاركت فيه جميع الطبقات، لكن الجديد الذى يضيفه أبو الغار في كتابه "الوباء الذي قتل 180 ألف مصري"(*) هو ظهور "الإنفلونزا الإسبانية" مع نهاية الحرب في عام 1918 وقتلها لعشرات الآلاف من المصريين، فاندمجت العوامل الثلاث؛ سوء التغذية والفقر الشديد والقهر بالسخرة مع الإنفلونزا، وحفزت الفلاحين على الاحتجاج الذي بدأ في عام 1918 وتصاعد تدريجيا في غضب شامل، انتهى بالثورة عام 1919.


يسجل أبو الغار بدقة الدور الكبير الذي قامت به الإنفلونزا الإسبانية في إشعال الثورة واستمرارها، لكن الغريب الذي أثار دهشته، ودهشتنا بطبيعة الحال، هو غياب معلومات بتلك الأهمية عن معظم المطلعين على دقائق التاريخ والذين أرخوا لتلك الفترة، خصوصا وأن ثورة 19 حظيت باهتمام كبير من جانب المؤرخين، وفي العام الماضي احتفلت مصر بمئوية الثورة وألقيت عشرات المحاضرات والمناظرات وألفت عشرات الكتب وعرضت أفلام ترصد تفاصيل الثورة الدقيقة، اتفق الجميع على بعض الأحداث واختلفوا على القليل، لكن الشيء الوحيد الذي لم يرد ذكره على الإطلاق -وهو أكثر ما يحير أبو الغار في هذا الأمر- هو وصول الإنفلونزا الإسبانية إلى مصر، وتجاهل تأثيرها الكبير وإسقاطها لمئات الضحايا والأسباب التي قادت إلى ذلك بطبيعة الحال... يقول إنه رجع إلى ما سجله عبد الرحمن الرافعي فلم يجد شيئا عن الوباء في فترة حرجة وصفها وأرخ لها الرافعي بدقة، حيث كانت ذروة الوباء في أثناء زيارة سعد زغلول وصحبه في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1918 إلى المندوب السامي مطالبين بإلغاء الحماية وطلب الاستقلال، وبالرغم من ذلك لم يكتب الرافعي سطراً واحداً عنه! وهو ما تكرر مع عدد من الكتب المهمة للطيفة سالم، وعفاف لطفي السيد، وشفيق باشا الذي كتب في حولياته سطراً واحداً يقول فيه: "وقد ساءت الأحوال الصحية في البلاد بانتشار حمى غريبة قاسية أشبه بالوباء الفتاك سميت بالحمى الإسبانية، وفتكت هذه الحمى بالعديد من الناس".

 قرأ أبو الغار بحثاً كتبه كريستوفر روز، أستاذ قسم التاريخ في جامعة تكساس عن تأثير الإنفلونزا على مصر في نهاية الحرب العالمية الأولى، قال فيه إنها قتلت آلاف المصريين، وكان لها تأثير اقتصادي وسياسي كبير، فبدأ البحث وراء الخيوط الموجودة في الدراسة، فوجد أنه يربط بشكل مباشر بين انتشار المرض وضعف مناعة المصريين بسبب الفقر وسوء التغذية، وسخرة الفلاحين المصريين في فيلق العمال، وبين الثورة التي بدأت في الأساس من الريف. حصل أبو الغار على مئات الوثائق من د.روز إضافة إلى أبحاث مماثلة من جامعة تكساس، ترصد الأوضاع الصحية في الفترة نفسها، وبعد مجهود كبير حصل على جميع صفحات جريدتي الأهرام والمقطم، الصادرتين خلال فترة ستة أشهر اشتدت فيها حدة المرض.

شكل هذا كله نواة مشروعه، الذي يعتبر أول تسجيل تاريخي للمرض في مصر، علاوة على كشفه للقصور الكبير في البحوث التاريخية التي وثقت لتلك الفترة الفارقة من تاريخ مصر. حاول أبو الغار أيضا الربط بين الإنفلونزا الإسبانية (1918) وبين كوفيد-19(2020)، ليبين أوجه الشبه بينهما وتأثير كليهما على البشر والصحة والاقتصاد، ثم التأثير السياسي لكل منهما، حيث يظهر اعتقاد المؤلف بالتأثير السياسي للأوبئة بداية من الصفحات الأولى لكتابه، يقول مثلا إن الطاعون كان سبباً رئيساً في انهيار حكم المماليك، ويصفه ابن إياس في كتابة "بدائع الزهور في وقائع الدهور" قائلا: "واشتد أمر الغلاء بالديار المصرية وعم سائر ضواحيها ومات من أهل القاهرة والفلاحين النصف، فلما اشتد أمر الغلاء كثر الطاعون؛ ونادى السلطان في الناس أن يصوموا ثلاثة أيام متوالية وأن يخرجوا إلى الجوامع". كما أن الطاعون أيضا كان من عوامل انهيار الإمبراطورية الرومانية في القرن الثالث الميلادي.

يقول أبوالغار إن هناك من اعتقد أن سبب تسمية الوباء باسم الإنفلونزا الإسبانية يرجع إلى أنه نشأ في إسبانيا، لكن الحقيقة ليست كذلك، فبسبب الحرب العالمية الأولى منعت المخابرات الحربية الألمانية والبريطانية وسائل الإعلام من نشر معلومات عن الإنفلونزا وضحاياها خوفاً من التأثير على الروح المعنوية للجنود، ولما كانت إسبانيا على الحياد أثناء الحرب، فقد نشرت الصحف الإسبانية تفاصيل الوباء في كل مكان بدقة، ونقل العالم عنها المعلومات، ومن ثم أطلق عليها الإنفلونزا الإسبانية.

يصف الكتاب الإنفلونزا الإسبانية كأهم وأخطر الكوارث في التاريخ الحديث، ويقارنه البعض بالطاعون الأسود الذي حدث في القرن الرابع عشر، حيث كانت نسبة الوفيات في المستشفيات تتخطى 25% في أيام الذروة، وكان تأثير الوباء عنيفاً على أوروبا وإفريقيا وأستراليا، ووصل التشابه مع الموقف الحالي أقصاه في احتمالية أن يكون هذا الوباء قد بدأ في الصين، وأنه رصد في الوقت نفسه تقريبا في الولايات المتحدة، التي ربما تكون أيضا مكان بدء الوباء! وإن انتشر الوباء الحالي مع وسائل النقل المتطورة، فقد ساعدت الحرب العالمية على انتشار الإنفلونزا الإسبانية في العالم وقتها، ويقدر عدد الوفيات في إفريقيا بحوالي 1.5 إلى مليونين، وفي الولايات المتحدة أكثر من 600 ألف، وفي بريطانيا 200 ألف، وتوفي ربع سكان ألاسكا، وبعض البلاد أصيبت بموجة ثانية وثالثة انتهت في 1920، ويعتقد أن الوباء أصاب نصف سكان العالم، بينما شعر ربع سكان العالم بأعراض المرض، وبشكل عام هناك تضارب كبير في أعداد الوفيات التي تتراوح ما بين 40 و50 مليوناً، ويقدرهم البعض بمائة مليون، وقتلت الإنفلونزا الإسبانية من الجنود أكثر مما قتل في أثناء المعارك.

بدأ ظهور المرض في مصر في مايو/أيار 1918 في الإسكندرية آتياً من أوروبا عبر البحر، وبدأ ظهوره يتضح في بورسعيد في يونيه /حزيران آتياً من البحر أيضا، وظهر في القاهرة في صورة مخففة في يوليه/ تموز 1918 وفي أغسطس/ آب ظهر في الدقهلية، وحتى نهاية شهر أغسطس /آب لم تحدث زيادة واضحة في معدل الوفيات، لكن في سبتمبر/أيلول بدأت تظهر بكثرة حالات الالتهاب الرئوي الحادة في المحافظات التي بدأ المرض ينتشر فيها، وفي الوقت نفسه ظهرت حالات التهاب رئوي شديدة مع نسبة وفيات عالية في المنوفية والغربية وجرجا وأسيوط، وفي أكتوبر/تشرين الاول انتشر المرض في مصر كلها بسرعة فائقة، وازدادت نسبة الوفيات بطريقة مريعة، وفي نوفمبر/تشرين الثاني دخل المرض كل ركن صغير في أبعد مكان في مصر، وفي الأسبوع الأول من ديسمبر /كانون الاول وصلت الإصابات والوفيات إلى أعلى مستوى، ومن ثم لم تكن هناك حدود واضحة بين موجتي الوباء...

عبر تقارير رسمية تنشر للمرة الأولى، يتابع الكتاب بدقة التعامل المصري مع الوباء الفتاك، وكل الإجراءات الصحية التي تتشابه كثيرا مع ما يجري الآن، التباعد والكمامات والمطهرات، إغلاق المدارس، ومنع التجمعات، والبحث عن الأمصال، الرعب والخوف والقلق الذي فتك بالألاف قبل حتى أن يصل إليهم الفيروس. يرصد أيضا بالوثائق التراجع الاقتصادي الكبير الذي صاحب ظهور المرض وتفشيه، وكيف ترك الفلاح وحيداً في مواجهة المرض القاتل، حيث ارتفعت تكاليف معيشة عائلة صغيرة في القاهرة من 235 قرشا في الشهر عام 1914 إلى 350 -390 قرشا في الشهر في مايو 1918، وبالنسبة الى الفلاحين ارتفعت من 109 – 143 قرشاً في الشهر عام 1914 إلى 192-253 قرشاً في الشهر عام 1918 "وبالطبع لم تكن المعاناة على الجميع، فالجيش أخذ كفايته، والأغنياء كانت لديهم القدرة على الشراء، وشعر الفلاحون بأن احتفاظهم بالمحصول أكثر أهمية من أي مبالغ يتقاضونها، وكان ذلك يعني معركة مع أصحاب الأرض وموظفي الدولة. وزادت الأسعار بسبب الحرب إلى ثلاثة أضعاف، واستولى الجيش على كميات هائلة من التبن، مما أدى إلى نقص العلف للحيوانات وأثر على الثروة الحيوانية".

بالطبع، أثر ذلك كله على الأيدي العاملة في الريف، مما أدى إلى خفض الإنتاج الزراعي ورفع أسعار العمالة ورفع سعر المنتج. رفض الفلاحون الالتحاق بفيلق العمال، بسبب مخاطر الموت في الحرب ثم خطر الأوبئة المتفشية، وأدى ذلك إلى معارك مع البوليس اسفرت عن مقتل 200 شرطي في الصعيد، واعترفت لجنة ملنر وزير المستعمرات التي شكلها البرلمان الإنكليزي للتحقيق في أسباب ثورة المصريين بأن هناك أسباباً عديدة للغضب، وبالرغم من تركيز اللجنة على عدة أسباب للثورة في الريف والمدن فإن تقرير الملك فؤاد الصادر في أوائل الثلاثينيات ركز فقط على أن الثورة والغضب سببهما احتجاج المواطنين في المدن طلباً لإلغاء الحماية والمناداة بالاستقلال.

ويؤكد أبو الغار أن عدداً من المؤرخين لم يوافقوا على هذا التفسير الذي قدمه الملك فؤاد، ويعتقدون أنه يلزم تفسير لسبب الغضب العارم للفلاحين والعمال الزراعيين، فكيف يقومون بهذا الدور الكبير في تأييد ثورة المدن من دون أن يكونوا مسيسين وغاضبين؟ وبدأ بعض المؤرخين يبحثون عن أسباب للعنف والثورة في الريف وتوصلوا إلى أن الإنفلونزا الإسبانية كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، بعد أربع سنوات من الجوع وسوء التغذية والمرض الذي حدث للمصريين في أثناء الحرب العالمية الأولى.

ويخلص المؤلف إلى إن السياسة البريطانية الظالمة خلال الحرب، أضرت بالمصريين ضرراً بالغاً؛ حيث تركتهم لقمة سائغة للمرض، فرفع أسعار الطعام فوق طاقتهم أدى إلى نقص الغذاء والنمو والمناعة والمقاومة ضد الأمراض، وزاد على ذلك القهر بتجنيد الفلاحين في فيلق العمال التابع للجيش البريطاني، وأفضى ذلك إلى زيادة فرصة الإصابة بالإنفلونزا الاسبانية عندما حل الوباء بمصر، وزادت المضاعفات وهو ما أدى إلى وفاة بين 138 و180 ألف مواطن مصري. وبالرغم من تطبيق التسعيرة الجبرية على الطعام الأساسي في مايو عام 1918 فإن ذلك لم يحل المشكلة، وأدى إلى غضب شديد بين المصريين وبخاصة في الريف، وإلى قلاقل بدأت تظهر في عام 1918 وانتهى الأمر بثورة الريف التي أيدت ثورة المدن بقيادة سعد زغلول، واندمجت في ثورة 1919 التي انتهت باستقلال جزئي لمصر وحصولها على دستور وبرلمان.

أخيراً، يؤكد المؤلف على ضرورة الانتباه لدروس الماضي، وإصلاح النظم الصحية وتحسينها، وإيجاد حلول ناجعة للهيكل الاقتصادي والاجتماعي، لأن تأثير وباء كورونا الحالي وفقاً لتوقعاته، سيكون أكثر بكثير من وباء الإنفلونزا الإسبانية، حيث سيمتد تأثيره على الاقتصاد وسوق العمل والصناعة والتجارة والنسيج الاجتماعي نفسه "ضربات الوباء سوف تؤثر في الواقع الاجتماعي والاقتصادي.. وبعد وقت ليس بالطويل سوف يؤدي إلى تقلبات اجتماعية واحتجاجات، وربما إلى ثورات".

 

(*) "الوباء الذي قتل 180 ألف مصري" لمحمد أبو الغار. صدر مؤخرا عن دار الشروق -القاهرة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها