الجمعة 2020/10/30

آخر تحديث: 13:58 (بيروت)

"كالفهد في الشمس" للكولومبية لاورا ريستريبو

الجمعة 2020/10/30
"كالفهد في الشمس" للكولومبية لاورا ريستريبو
لاورا ريستريبو
increase حجم الخط decrease
صدرت عن منشورات سرد رواية "كالفهد في الشمس" للكاتبة الكولومبية لاورا ريستريبو، ترجمة مارك جمال... وجاء في تعريف الرواية: 
يشتعل فتيل الحرب بين آل مونسالبيه وآل بارّاغان، حربٌ ضروس لا يحكمها إلّا قانون واحد: الدمّ بالدمّ. وفيما تسعى العائلتان إلى مراكمة الثروة من خلال الأنشطة غير المشروعة، يسطّر الحب بحضوره مآثر ويبدِّل مسارات، ويخلق تلالاً من الكلمات التي يتناقلها الناس عن أفراد العائلتَيْن حتى لم يعودوا ما هم عليه، بل ما يحكيه الناس ويتخيّلونه. وهكذا تبدأ الأسطورة التي صارَت حقيقةً من فرط ما تناقلَتها الألسن، أو لعلّها قصة حقيقية غدَت أسطورةً من فرط ما رُوِيَت.
بسردٍ متشابك مفعم بالتفاصيل الحسّية، ينهل من ينابيع الواقعية السحرية، تكتب لاورا ريستريبو، روايةً وحشية وعذبة في آن، قصةً ملحمية عن الرغبة والخيانة، أسطورةً عن الحياة والموت الجاثم في الصحراء: «كالفهد في الشمس».

***

مقطع من الرواية: 

ها هو ذا، الجالس مع الشقراء. إنه ناندوبارّاغان.

وسط الغبش المُخيّم على الحانة تسري الشائعة. إنه هو. ناندوبارّاغان. مئة عين ترنو إليه خلسةً، وخمسون فماً تهمس باسمه بصوت خافت.

- «ها هو ذا: إنه واحد منهم».

حيثما ذهب آل بارّاغان تسري الهمهمة في إثرهم. إنها اللعنة المكتومة، الإعجاب الخفيّ، الضغائن الدفينة. يعيشون خلف واجهة. فهم ليسوا ما هم عليه، بل ما يحكيه الناس، ويرتؤونه، ويتخيّلونه. إنهم خرافة حيّة، أسطورة حاضرة. بل إنهم، من فرط الأكاذيب التي رُوِيَت عنهم، صاروا تلالاً من الكلمات. حياتهم ليسَت لهم، بل إنها ملكية عامة. يمقتهم الناس، يتملّقونهم، يجحدونهم، يقلّدونهم. كلُّ امرئٍ وشأنه. ولكن ما اتّفقوا عليه، بالإجماع، هو مخافةُ آل بارّاغان.

- «الجالس إلى البار. إنه الزعيم، ناندوبارّاغان».

تنساب العبارة على منصّة الرقص، وتتردّد في أرجاء المكان، وتسري من طاولة إلى أخرى، وتنعكس مضاعفةً على مرايا السقف. والخوف يتكثّف تحت الضوء الأسود. والتوتّر الحادّ يقطع سحائب الدخان ويشوّش أغنيات البوليرو الآتية من صندوق الموسيقا. يتوقّف أزواج الراقصين. ويلتمع الوميض الآتي من كشّافات الإضاءة بالأزرق والبنفسجي، مُنذِراً بالمصائب. تتصبّب الأكفّ عرقاً وتقشعرّ الظهور.
غافلاً عن الهمس، غريباً عن الاضطراب الذي يدبّ في المكان بسبب حضوره، يدخّن ناندوبارّاغان، العملاق الأصفر، سيجارة پيليروخا جالساً على أحد مقاعد البار العالية.

- «ما لون بشرته؟».

- «أصفر محترق، مثله كمثل إخوته».

له وجهٌ تنتشر فيه الثقوب وكأنما أتلفَته الطيور، وعينان حسيرتان متواريتان خلف نظارة «رايبان» سوداء عدساتها عاكسة. تحت القميص الكاريبي يرتدي قميصاً داخلياً مُشحّماً. وعلى صدره الرحيب الأملس، الذي يلمع بفعل قطرات العرق، علّق في زهوٍ سلسلةً تنتهي بصليب كاراباكا الضخم، من الذهب المصمت. ذلك الصليب الثقيل القدير.

- «كلّ فردٍ من آل بارّاغان يعلّق صليباً من صلبان كاراباكا. إنه تميمتهم. وإليه يتضرّعون طالبين النقود، والعافية، والحب، والسعادة».

- «أربعة أشياء يطلبونها، فلا يمنحهم الصليب إلّا النقود. أما البقية، فلم ولن ينعموا بشيء منها».

وأمام ناندو، في المقعد المقابل، تجلس شقراء مكتنزة، مهيبة، واضعةً ساقاً على ساق، وقد حشرَت جسدها في ثوبٍ أسود من قطعة واحدة، مُطعّم بالدانتيل المطاط، ثوب ضيّق مطاطي يليق بالديسكو، يسمح للناظر بأن يرى من بين طيّات النسيج بشرةً ناضجة وصدرية من الساتان، مقاس 40C. أما عيناها اللتان لا شكل لهما ولا لون، فترمشان، مرسومتين بالمَسْكَرة، والكحل، والظلال المُلوّنة بألوان الطيف. تعود برأسها إلى الوراء مُلقيةً بشعرها الأشقر الذي يلهب ظهرها كالسوط، يابساً مثل القشّ، كاشفاً عن سواد جذوره الأصلي. تتحرّك في شهوانية مخذولة تليق بقطّة شاردة، وتحيط بها هالةٌ من الجلال الغامض وكأنها إلهة قديمة.

يرنو إليها ناندوبارّاغان إجلالاً، ويذوب قلب المحارب الغليظ قطرةً قطرةً، كشموع القرابين المُضرَمة أمام المذبح. يقول لها: «لم تنَل منكِ الأعوام. جميلة أنتِ يا ميلينا. كما كنتِ في ما مضى».

ثم يعاقب حلقه بالدخان الحارّ المنبعث من السيجارة الپيليروخا. فتجيبه الشقراء بصوت شهوانيّ أجشّ، من الأعماق: «وها أنت قد غرقتَ في الذهب حتى أذنَيْك. كنتَ رجلاً فقيراً حين تعرّفتُ بك».

- «ما زلتُ الرجل نفسه».

- «يُقال إنك تمتلك سراديب ممتلئة بالدولارات، مُكدّسة في أكوام. يُقال إن الأوراق المالية تتعفّن في حوزتك، وإنك لا تدري ما العمل بها من فرط ما تمتلك من النقود».

- «يُقال الكثير. عودي إليّ».

- «كلّا».

- «لقد ذهبتِ مع ذلك الأجنبي حتى يأخذكِ بعيداً، إلى حيث لا تبلغكِ ولا حتى ذكراي».

- «إنها ذكرى أليمة. يُقال إنك لا تترك في طريقك سوى الأرامل والأيتام. ما الشرور التي سمحَت لك بأن تجني كلّ هذه النقود؟».

لا يحير الرجل جواباً. يتجرّع رشفةً من الويسكي، ويتبعها بأخرى من بيرة «ليونا پورا». وإذا الرغوة الفوّارة للشراب الشفّاف تردّ له ذكرى مبهمة، ذكرى أطفال يلعبون البيسبول على الرمال، بعصيّ المكانس بدلاً من المضارب، وأغطية القوارير بدلاً من الكرات.

وعند ذاك يقتحم آل مونسالبيه المكان دفعةً واحدة، ويشيعون الفوضى في المكان. كان ناندوبارّاغان والمرأة الشقراء جالسَيْن إلى البار، وظهرهما إلى المدخل، فأطاحَت بهما في الهواء دفقة من رصاص المدفع الرشّاش.

- «كان ناندو والشقراء يتجاذبان أطراف الحديث، ويتبادلان القبلات، وقد تشابكت ساقاهما، عند ذاك أُطلِق عليهما الرصاص. أقول ما أقول لأني كنتُ هناك، في تلك الحانة، ورأيتُ ما جرى بهاتين العينَيْن».

كلّا. لا يلمسها ناندو في تلك الليلة. بل إنه يقابلها بالاحترام الذي يبديه الرجال لمن هجرَتهم من النساء. يتحدّث إليها، ولكنّه لا يلمسها. بل إنه بالأحرى يرنو إليها في ألم.

- «ومن أين لكم أن تعرفوا كيف كان يرنو إليها، ما دامت النظارة السوداء تحجب عينَيْه؟ إنها مُجرّد أقاويل. الكلّ يدلي برأيه، وليس هنالك من يعرف شيئاً».

الناس ليسوا مُغفّلين، بل إنهم ينتبهون إلى ما يجري. ومُجرّد نظرة إلى ناندو تكفي ليدرك المرء ما يعتمل في نفسه من الحنين، كهالة باهتة تحيط بقوامه. تتبلّد حواس ناندو وهو برفقة ميلينا، ويفقد القدرة على شمّ المخاطر، إذ تخدّره حيرةٌ بلا قرار، حيث لا وجود لسواها. وتسري إليه رجفة. في هذه الحياة لم يبثّ في جسده الرجفة إلّا شخص واحد: ميلينا، الوحيدة التي استطاعت أن تقول له «كلّا».

- «وعلى الرغم من كلّ شيء كان حالماً، من أولئك الحالمين الذين لا شفاء لهم، التائهين».

يهبط ناندو إلى عالَم البشر فلا يُهزَم، ولا يرحم. ذلك أنه يغدو كحيوان الوَشَق، كالصاعقة، كالسوط. أما حين تعاود هي الظهور، وإن يكُن في ذاكرته، فيستسلم لوسن ليّن أعزل، يليق بجرو تناول الطعام لتوّه، أو بعجوز سقطَت تحت وطأة قرص فاليوم 10. في تلك الليلة، ليلة اللقاء الطارئ بعد أعوام من الغياب، لم يعُد ناندو يفهم غيرها أو يحسّ به. فهو لا يترقّب وصول أبناء عمّه وأعدائه، آل مونسالبيه: بل وربما نسي وجودهم للحظة.

وتكريماً لميلينا، التي تشعر بنفور من السلاح، يتخلّى عن مُسدّسه الكولتكابايّو، بما حوى من رصاصات تحمل اسم ناندو، وصورة المهر الذي يشبّ على قائمتَيْه الخلفيتين المنقوشة على المقبض العاجي. تنخفض مُعدّلات حذره، ويمضي مُسلّماً أمره، مُتوخّياً السلامة، كما يليق بعاشقٍ يطلب الصفح.

ولذا لا ينتبه حين يقتحم آل مونسالبيه الحانة. يسمع الباقون صوت الستار الأسود المُعلّق في مدخل المكان وهو ينزاح، ويرون الخيال المُفضّض لرجل هزيل برفقة ثلاثة آخرين. فيتعانق الأزواج بحثاً عن الحماية مما قد يقع. وتنبطح النادلات تحت الطاولات. أما ناندو فلا. فهو لا يدرك شيئاً، تائهاً في اشتياقه ولوعته.

لاورا ريستريبو:
روائية كولومبية، وُلدت في بوغوتا العام 1950. وتُعتبر من أبرز الكاتبات الكولومبيات المعاصرات. تُرجمت رواياتها إلى أكثر من عشرين لغة، ومن هذه الروايات: «رفقة عذبة»، «العروس الداكنة»، «جنوب حار»، «هذيان»، «خطيئة».

نالت ريستريبو عدداً من الجوائز الأدبية، مثل جائزة «سور خوانا إينيس دي لا كروث» (1997)، جائزة ألفاغوارا للرواية (2004)، والجائزة الوطنية للآداب في كولومبيا (2007).

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها