الخميس 2020/10/22

آخر تحديث: 13:00 (بيروت)

نحتٌ في الحرب..لماذا قاتل لبنانيون مع القذافي ضد التشاد؟

الخميس 2020/10/22
increase حجم الخط decrease
"رجل يصرخ" هو الفيلم الذي أوصل المخرج محمد صالح هارون (أبشي، 1961) إلى قمّة مهرجان "كان" السينمائي، بعدما قدّم قصة يحكي فيها جرائم الرئيس التشادي السابق حسين هبري، واعتبر انتقامَ المخرج لكل المآسي التي تسبب له فيها ديكتاتور الثمانينات. لقد استطاع أن ينتج أفلاماً جيدة في بلد لم يعرف غير الحروب. من بين أعماله العديدة التي فاز بعضها بجوائز، ووصلت أخرى إلى اللوائح القصيرة، يظل فيلمه "أبونا" (2002) الأقوى والأجمل بحسب آراء العامة في تشاد. يتحدث الفيلم عن شقيقين يشعران باكراً بيُتم الأب، وتخبرهما الوالدة أنّ والدهما ذهب ولن يعود.

في بدايات الثمانينات، كان الناس يختفون هكذا، من دون ترك أي أثر، وكانت البلاد في حرب طويلة: يذهب الجنود فلا يعودون، يختفي المثقف فلا يظهر. هكذا يعتبر في عِداد الأموات. يكتشف الأخان أنّ والدهما كان ممثلاً، فيقتحمان السينما الوحيدة في المدينة: سينما ريكس. هناك يبحثان عن صوره بين الشرائط. يجدان عنوان الفيلم الذي شارك فيه ويشاهدان والدهما من خلال الشاشة، وهو يقوم بدور من يذهب بلا عودة. يعيش الطفلان مآسي متتالية: وهم صبية، يسرقان، يُهجّران من المدينة، يتسوّلان الأكل، ويمضيان السنوات الطويلة في حفظ القرآن واستظهاره. فعبر إخراجهما من المدرسة والمدينة، وإرسالهما إلى البادية، يسلط المخرج الضوء على حياة الأطفال في أفريقيا جنوب الصحراء. أمين (8 سنوات)، المريض بالربو، يموت اختناقاً بعد إخفاء أحد الصبية رشّاشة تنفّسه، أمّا شقيقه طاهر (15 سنة)، فيتيه بعد أن تحمل منه المراهقة منيرة.


الحنين إلى ريكس
من خلال رحلة البحث عن والدهما، يعود المخرج إلى ذكرياته ليقدم لنا مشاهد من شارع شارل ديغول، وسينما ريكس، والسوق المركزي. أماكن ارتادها المخرج في نهايات السبعينات حين كان تلميذاً في الثانوية، وافتقدها طوال سنوات الدراسة في باريس. صالة ريكس هذه اندثرت الآن في العاصمة. المرة الأولى التي دخلت فيها صالة سينما، كانت في العام 2008، في أواخر شباط: الجو بارد ورائحة البارود ما زالت في الأرجاء. عمّال البلدية يكنسون الشظايا من شارع شارل ديغول بعدما دكّ الثوار أبواب العاصمة أنجمينا، ودارت معارك طاحنة على أشهر في أهم شارع في البلاد.

مررتُ في الأماكن التي مرت عليها العدسة: السوق المركزي، المركز الليبي، مكتبة المنى، شارع شارل ديغول، سينما ريكس، إلخ. وهناك شاهدت فيلم "أبونا". بكيت وعرفت أنني داخل سينما ريكس، وأنهم غيروا اسمها إلى "النورماندي". كما أن ملكية السينما آلت إلى لبنانيين بعدما كانت لفرنسيين.

لم تكن هذه هي الزيارة الأولى للبنانيين لتشاد، فقد وصلوا بأعداد غفيرة للقتال ضد حسين حبري الذي تصدّى لطموحات معمّر القذّافي، وتسبب في هروب مُخرجنا من مدينته ليأكله الحنين لسنوات طويلة في مدن بعيدة. لم ينس محمد صالح هارون تلقيه إصابة بليغة وهو يمر أمام سينما ريكس، في شارع شارل ديغول، ليحتمي في الحديقة الأميركية حتى لا تصيبه الرصاصات التي أطلقها جنود حسين حبري. وبعد جهد كبير وصل إلى الكاميرون، ومنها إلى باريس التي لم يعد منها إلا بعد سنوات من هروب الرجل الذي طرده إلى المنافي.

الشيوعي الخائب
قبل عقد من حربه مع القذافي، كان حسين حبري في جبال تبيستي، في أقصى الشمال التشادي، وبرفقته عشرات الرجال فقط. حينذاك، بعدما تم الإنشقاق بينه وبين قريبه التبّاوي الآخر قوكوني ودي، حينها اتضح للأخير أن هذا الشاب القادم من مدرجات السوربون لن يكتفي بالنائب كمنصب، بل تبدّت له رغبة في زعامة القوات بنفسه لأنه حامل شهادة عليا. وبعدما تاه بين الهضاب، فكّر الشاب الثوري المتأثر بالحركة الزنجية، التي قرأ لشعرائها أيّام الجامعة(سيزار، سنغور) في طريقة للحصول على المال والجند. فقام باختطاف واحتجاز باحثين فرنسيين كانوا في الأرجاء، وتفاوض مع فرنسا مقابل السلاح والفدية. في البدء، لم يأخذوا كلامه بالجدية الكاملة، ولم يدركوا بعد أنه يكره فرنسا، لكنّ حادثة واحدة جعلتهم يلبّون مطالبه، ليصبح المعارض الأشهر في تشاد.

حطت طائرة هليكوبتر فى منطقة نائية من تبيستى، وهبط منها ضباط فرنسيون توجهوا للقاء حسين حبري. في معرض حديثه معهم، خاطبه أحدهم بالقول: "إن فرنسا لن تستجيب لأي طلبات ولن ترضخ لأي تهديد وستحول هذه البقعة من حولك الى جحيم خلال ساعات". نظر إليه حسين حبري مليا ثم قال: "هل يوحى لك هذا المكان بأن هناك أثر للحياة؟" ولم ينتظر حسين حبري رداً، فقد طلب من محاوره أن يخلع خاتمه من يده وأن يخرج محفظته ويسلمها لأحد رفاقه، ثم رطن ببضعة كلمات لمن هم خلفه، ومن ثم سمع دوي رصاصة، وشوهد جنود فرنسيون عائدون وهم يحملون جثة.

بعد ذلك بسنوات، تحكي رهينة تدعى مدام كلوستر بأنها عاشت بين أكثر الرجال نبلاً وشهامة، وقالت إنهم عاملوها باحترام شديد. عالمة الآثار تلك، عاشت مع الثوار لثلاث سنوات ثم عادت إلى بلادها بعدما دفعوا الملايين لحسين حبري، وهي الأموال نفسها التي قادته إلى حكم البلاد. لكن فرنسا لم تنس تلك الإهانة، ولم تحب هذا الشيوعي إطلاقاً؛ فانتهزت أول فرصة لتساعد ثائراً آخر هو إدريس ديبي للوصول إلى كرسّي الرئاسة.

لبنانيّون في الصحراء التشادية
ما لم أفهمه حتى اليوم، ما الذي دفع فصيلاً لبنانياً، وآخر فلسطينياً، للمشاركة في حرب القذّافي على تشاد، وهو الأمر الذي ناقشناه برفقة زملاء طوال عام جامعيّ، ثم استسلمنا لحجّة أن القذّافي قد خدع العرب في زمن القوميّات بأننا زنوج ووحوش. وفي العام 2017، أتيحت الفرصة لزميل أن يسافر إلى لبنان وعندها اجتمعنا لمطالبته بالعودة بالخبر اليقين. حين عاد، زرناه في بيته، وقبل أن نبارك له أو نشرب الماء، سألناه، فأخبرنا بأن الأمر حقيقي وأنّ القذّافي أقنعهم بأن تشاد احتلت أرضاً هي ليبيا بالأساس، كما أقنعهم بأن تشاد دولة لا تدين بالإسلام ويقف النصارى واليهود خلف جيشها الذي يحتل أرض ليبيا. هكذا قال القذافي. وتململنا بضجر غير مقتنعين، فأضاف مستفيضاً أن ثمة أحزاباً يسارية شاركت في هذه الحرب، وامتنع عن ذكر الأسماء. أخبرنا أنهم اجتمعوا في عين زحلتا اللبنانية لمحاربتنا، وادعى امتلاك تقرير بالصور لصحيفة "النهار" اللبنانية لم نره قط. توقفنا عن طرح الأسئلة كي لا يغيب ويعود بتقرير يبيد شكوكنا.

وما لم يفهمه الرئيس حسين حبري، ومعه غالبية التشاديين، حتى اليوم: كيف تمكن القذّافي من إقناع زنوجٍ من مالي وبنين، ومعهم فصيل لبناني وفلسطيني، بأن يقاتلوا ضدنا في الصحراء بحجّة أننا كفّار! إنّ المعلومات التي يمتلكها العرب عن انتشار الثقافة العربية في إفريقيا جنوبي الصحراء منقوصة، بل إنّ العربي لا يستطيع تهجي اسم العاصمة التشادية بشكل سليم، ويستغرب حين يقرأ شيئا بالعربية كتبه تشادي؛ ليتساءل: هل تتحدثون العربية في بلادكم؟ نعم، العربية لغة رسمية، إلى جانب الفرنسية، ونتشارك الحدود المتهالكة مع دولتين عربيتين: ليبيا والسودان. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها