الثلاثاء 2020/10/20

آخر تحديث: 13:31 (بيروت)

بول طبر والهجرة الثانية..كنت أراهن على انتفاضة 17 تشرين

الثلاثاء 2020/10/20
بول طبر والهجرة الثانية..كنت أراهن على انتفاضة 17 تشرين
increase حجم الخط decrease
في السنة التي قررت خلالها ان أتقاعد من العمل الجامعي في لبنان بدوام كامل، حدثت أمور عديدة أضافت حيرة على حيرتي المتعلقة اساساً بقرار التقاعد من العمل وبقرار العودة الى سيدني للالتحاق بزوجتي وعائلتي بصورة متواصلة ومستديمة. في حقيقة الأمر، حيرتي الاساسية تعود الى اسباب متنوعة ومتداخلة في الوقت ذاته. ان أتوقف عن العمل المأجور في مجال التعليم بعد مضي ما لا يقل عن ثلاثين سنة في هذا الحقل ومن ضمنها عشرين سنة في لبنان، فهذا قرار جذري يؤشر الى أفول مرحلة اساسية في حياتي تخللها تحقيق ذاتي (الذكورية بالطبع) مالياً واجتماعياً.

ومع انتهاء هذه المرحلة ينتابني شعور بفقدان مكوّن اساسي من مكونات وجودي. مكوّن له علاقة بانتهاء مرحلة القدرة على الحصول المنتظم على أجر مالي مقابل العمل الذي أقوم به والمشفوع بالاحساس بأن ما أقوم به هو أيضاً نشاط مطلوب ومقدر اجتماعياً. ان تصميمي على الاستمرار في العمل جزئياً في مرحلة ما بعد التقاعد، والبقاء المأمول على نشاطي البحثي والكتابي، يخفف بلا أدنى شك من حدة هذا الشعور، إلا انه لا يمكن له ان يلغيه بالتمام. وهناك أمر آخر يساهم ايضاً في التقليل من الاحساس بالحزن المتعلق بالتقاعد من العمل بدوام كامل. انه التصميم المشترك مع شريكتي وربما أولادي او بعضهم، على زيارة اماكن عديدة من العالم، لا سيما في أوروبا وآسيا، إضافة الى التخطيط لزيارة لبنان كل سنة تقريباً لتمضية فصل الصيف في ربوع إهدن، وعيترون، نزولاً عند رغبة شريكتي رجاء المولودة في تلك البلدة الحدودية في جنوب لبنان. ورغم كل هذه المشاريع التي اصمم على القيام بها، اجد نفسي مع اقتراب موعد تقاعدي من العمل كما لو انني قد انهيت مرحلة مميزة من حياتي، والى الأبد.

ومع اقتراب موعد التوقف عن العمل، يقترب موعد من نوع آخر: انه موعد الهجرة الثانية من لبنان بعد مكوثي للعمل فيه تسعة أشهر سنوياً، طوال عشرين سنة. تذكرة السفر التي اشتريتها هذه السنة تختلف عن التذاكر في السنوات السابقة. انها باتجاه واحد ينطلق من بيروت الى سيدني مروراً بمطار دبي. لقد انطوى فجأة زمن شراء تذكرة السفر ذهاباً وإياباً الى بيروت. مغادرة لبنان هذه المرة لها طعم مختلف. انها مغادرة علاقات وانشطة واهتمامات ذات طابع منتظم وديمومة في الزمان والمكان. انه بتر قسري واختياري في الوقت نفسه، لصداقات قديمة وحديثة ولرهانات أقمتها خلال وجودي في لبنان، وقد ارحِّلها معي الى سيدني بعد أن أخفض وتيرتها وحضورها اليومي في حياتي. الهجرة هي عملية قطع واعادة وصل لما تتركه وراء ظهرك، وانما بشروط وظروف مختلفة. انها شروع ليس فقط في اختراع وطن جديد للمهاجر، وانما هي أيضاً إعادة اختراع لوطنك الام بأشيائه وناسه وعلاقاته وأحلامه وأمكنته. وتبقى حياتي تتأرجح بين الاختراع الاول والثاني وما يعتريهما من التباس ومعارك وخيبات أمل وأحلام.

من بين الرهانات التي سأغادرها والتي صودف تزامنها مع هجرتي الثانية الى سيدني، هو الرهان على انتفاضة 17 تشرين الاول 2019. نعم، كنت ولا أزال، من المراهنين على هذه الانتفاضة التي اطلقت ديناميكية تغيير في لبنان من نوع جديد قد يؤدي الى تغيير جذري في الحياة السياسية في لبنان. وأرى أيضاً انه بالرغم من تميزها، فجذورها تاريخية تمتد الى المطالب التي حركت ثورة الفلاحين في جبل لبنان بقيادة طانيوس شاهين العام 1858، وما سبقها من عامّيات في وجه "نظام المقاطعجية" والتراتبية في الحقوق والواجبات الاجتماعية والقانونية التي كان يفرضها على سكان الجبل. أوَليست انتفاضة 17 تشرين في وجهها السياسي الداخلي، انتفاضة لإحلال دولة القانون وحقوق المواطنين والمواطنات وواجباتهم المتساوية؟

مع قراري بمغادرة لبنان، ما الذي سيحدث لمشاركتي في انتفاضة تشرين ومراهنتي عليها؟ سؤال ينسلّ من ذلك الشعور بالواجب تجاه المكان الذي ولدت ونشأت فيه. واعتقد أن هذا الشعور قد يتسلل حتى الى وجدان الذين يتحدرون من أصول مهاجرة. على أي حال، انه الشعور الذي لا يفارقني بأن لبلدي دَيناً عليَّ ولا يجوز ان أتلكّأ في الايفاء به، كواجب ردّ الجميل لما بادر وقام به تجاهي في الأساس. لكنه دَين من نوع آخر، لا يمكن استيفاؤه مهما فعلت، ويبقى ملازماً لك مدى الحياة. (بالمناسبة هذا الشعور بالنسبة لي كمهاجر لم يبقَ محصوراً في لبنان، بل امتد بعد سنوات من وجودي في سيدني، ليشمل أستراليا أيضاً، كما أنني أشعر فيه بالعلاقة مع القيم الانسانية التي أحملها).

نعم، سأضع هذا الرهان تحت إبطي واصطحبه معي الى سيدني، لأعيد صياغته بشروط وظروف لها علاقة باستراليا، حيث يتم الآن تفريغ المضمون الايجابي لتجربتها في التعددية الثقافية في ظل تعاقب الحكومات المحافظة على حكمها. حقاً أعتقد ان تجربة الهجرة والحراك المتنامي للأفراد والجاليات والقيم والثقافات يمكنها أن تكون المحرك الأساس في خلق ثقافة إنسانية كوزموبوليتية تبتدع بطريقتها الخاصة الوحدة في التنوع والتنوع في الوحدة.

(*) مدونة نشرها الكاتب اللبناني بول طبر في صفحته الفايسبوكية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها