الأحد 2020/10/18

آخر تحديث: 10:23 (بيروت)

عن "جدار الصوت" بعد مشاهدته

الأحد 2020/10/18
increase حجم الخط decrease
منذ سنة تقريباً، طرحت مسألة فيلم "جدار الصوت"، الذي أقدم مخرجه أحمد غصين على تصوير مشاهده في سوريا، توفيراً للمال من موازنته. يومها، رددت جوقة، سميتها حينها "تلفزيون الدنيا اللبناني"، عبارة للجم المعترضين على فعلة المخرج، وهي "انتظروا الفيلم".

وهذا، بحجة أن التفرج عليه قد يؤدي إلى ابداء تلك الفعلة على غير ما هي عليه. بالتوازي مع الترداد المضحك لتلك العبارة، دُبّج "ملف" حول الفعلة إياها، شاركه وشارك فيه بعض أصدقاء المقدم عليها، ومن الذين كانوا يعلمون مسبقاً بها، ولكنهم، كانوا قد سكتوا حيالها، ساعين بعد ذلك الى التكفير عن سكوتهم هذا. وفي أثر هذا "الملف"، تقدمت الفعلة، وعلى الرغم من جلائها، كموضوع إيضاح وايضاح مضاد، أي كموضوع تحوير وكسوف.

ولكن، في البعيد من كل هذا، يدفع الفيلم، الذي كان قد عُرض خلال "مهرجان الأفلام اللبنانية في فرنسا" الى التوقف القليل عليه بالفعل. وسبب هذا، ليس كونه يتضمن الفعلة فحسب- نهب دمار السوريين ليقتصد قبل السطو عليه وتحويله الى دمار يخص حرباً خاضها قاتلهم، حزب الله، في "حرب تموز" 2006-  بل إنه يفاقمها أيضاً. ومفاقمته لها، تتعلق بالسياق الذي أدرجت فيه، أي الحكاية وتظهيرها، بحيث أن ذلك الدمار، ونتيجة السيناريو الذي حمله، انتقل من كونه مسروقاً الى كونه مسروقاً ومبدداً.

فعلياً، لا مبالغة في القول إن الفيلم أخفق في الاستناد الى عناصره، التي يصح وصفها بكونها موفقة، كالتمثيل، والتصميم، والإضاءة مثلاً. فكل عنصر من هذه العناصر، وحين يُوخذ على حدة، يبدو أنه على تلك الصفة، ولكن، وما أن يُلحق بغيره، حتى لا يعود عليها، بل يصير مُبَذراً. مرد ذلك، أمر بسيط للغاية، وهو افتقار كل هذه العناصر لرباط وثيق بينها، لرباط محكم، يعمد الى الاقران بينها، وجعلها تتبادل طاقاتها. هذا الرباط هو أولاً السيناريو، الذي لم يتمكن من إلحاقها ببعضها البعض في نتيجة اتسامه بالضياع. فعلى طول مشهديته، يبدو أنه يريد أن يقلّع ولا يقدر. وفي الكثير من الأحيان، أو بالأحرى عند الكثير من الوقائع، كان من الممكن أن يرتكز عليها لكي يزداد تبلوراً، لكنه، وبدل ذلك، يقفز فوقها، أو "يأطمها" اذا صح التعبير.

فمن ناحية، ايقاع الفيلم الذي أتى رتيباً، من مطلعه الى خاتمته، بحيث لا يتغير بحسب جريانه، بل يبقى ثابتاً. ومن ناحية ثانية، الحوار، الذي تتناقله الشخصيات بين بعضها البعض، ولكن، بلا أن تتبادله بمعنى أن يحملها الى تفاعل وتأثر وتحول. كل شيء في الفيلم ينتهي كما بدأ، وبين بدايته ونهايته، لا يحرز بغيته الاساس، أي أن يكون دائراً في حيز مقفل. فقد ظل هذا الحيز - وهو هنا الطابق الأرضي من المنزل، الذي تجتمع فيه تلك الشخصيات قبل أن يحاصرها الجنود الاسرائيليون الذين يستقرون فوقها، أي في الطابق الأعلى- حيزاً معلقاً بين انفتاح غير مراد وانغلاق غير منجز. بالطبع، انطوى الفيلم على محاولات من أجل تصليح السيناريو المعطل: "مسحات" درامية، الركون الى التنكيت، التماهي مع أسلوب المخرج الفلسطيني إيليا سليمان التهكمي (مشهد الساحر)... كل هذا، لم يصلح ذلك السيناريو، بل إنه زاد ضياعه، أو بالأحرى تضعضعه، تاركاً فيلمه على حالته: يجري بلا أن يقول أي شيء، وهذا، مع أن موضوعته يُقال فيها أشياء كثيرة، ليس فقط سياسية، بل، وأيضاً، اجتماعية (الصلة بين المختبئين)، واخلاقية (النجاة)، وعاطفية (زوال العلاقات)...

لم يقل الفيلم أي شيء في كل هذه الصعد، وخلال جريانه الى انعدامه، كان الدمار المسروق من السوريين يبرز فيه، يندرج في سياقه، فيتحول من مسطوٍ عليه الى متلف. فهو، وبعد أن جُرّد من معالمه، وصار دماراً خلفته حرب حزب الله واسرائيل، لم يكن له أي وقع وأي وطأة، بل غدا محكوماً، وبفعل السيناريو، بتبدده. لقد انتهى دمار السوريين إلى كونه جزءاً من ذلك الانعدام الذي يشكل قوام الفيلم، وهذا، قبل أن يسعى المخرج الى التخفيف من مفاقمة فعلته بحقهم من خلال الذكر في الشارة أنه صور مشاهده في سوريا. وفي هذا المسعى، عاد وفاقم الفعلة إياها بوقاحة صريحة، وهي قريبة من وقاحة رؤوس النظام اللبناني الذين يطلون قائلين "نعم نحن فاسدون"، وبهذا، هم يبغون جعل هذه الحقيقة أمراً عادياً. فالمخرج يحذو حذو هؤلاء، كما لو انه يقول للسوريين: "أنا سرقت دماركم، وها أنا أذكر ذلك، أنا لا أخفي هذا، اذاً، أنا لم أفعل شيئاً". ولكن، ها هو فيلمه يحمل الفعلة بحقهم، لا كأمر عادي، بل كأمر غير عادي البتة، لا يمكن تقبله، ولا غض الطرف عنه، وطبعاً، لا يمكن لأي مهرجان أو جائزة أن تمحيه منه. انه أمر مفجع حقاً.

وتبقى التحية دائمة الى أصحاب ذلك الدمار، أكانوا قتلى ام مهجرين! 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها