الخميس 2020/10/15

آخر تحديث: 12:04 (بيروت)

عفاف صلاح.. طفولة بعد سن التقاعد

الخميس 2020/10/15
increase حجم الخط decrease
لربما لا تدرك التشكيلية المصرية الفطرية، عفاف صلاح، أنها بإنجازها معرضها الأول بعد سن الستين في أتيليه القاهرة (أكتوبر/تشرين الأول 2020) قد انتصرت للمرأة والأمل واللون والدهشة والقيم الفنية المجرّدة في آن واحد، إلى جانب تعزيزها التلقائية في مقابل المدرسيّة، ومناصرة البساطة في مواجهة البراعة، وإعلاء شأن الارتجالية فوق قواعد المنظور والقياسات الحسابية المقننة.

كلُّ ما طَمحَتْ إليه فنانة البراءة والطفولة هو استعادة حلمها المؤجّل منذ صغرها بأن ترسم، وتفجّر مخزونها البصري وحمولة ذاكرتها النشطة كبركان حيوي مبهج، وقد حرمتها التقاليد المجتمعية البالية وقيود الوظيفة سنوات طويلة من تحقيق هذا الحلم، الذي كان من الممكن أن يموت بداخلها مبكرًا لحظة إكراهها من جانب أهلها على ترك كلية الفنون الجميلة التي التحقت بها العام 1976، إذ توجسوا من انخراطها كفتاة جنوبية في الوسط الطلابي المتحرر "غير اللائق، من وجهة نظرهم، لكنها ظلت وفية لفكرتها، مخلصة لعهدها مع مسطحات الورق وبالتة الألوان والخيالات الخصبة المتشابكة، لتبدأ حياتها الجديدة التي أرادتها بعد عمر تبددت أيامه في الدراسة في المعهد الصحي والأعباء الأسرية الثقيلة والعمل الوظيفي المرهق في محافظة أسوان.

أطلت ابنة النيل والشمس وقوس قزح على الفن من نافذة التحدّي، مؤمنة بأن الطفولة هِبَة ربّانية وَصِفَة إنسانية وحالة فنية أيضًا لا تتأثر بعمر الرسّام، فهي كالطاقة التي تتلبس الكتلة، والموهبة الخام الموجودة بذاتها. هذه الطفولة هي عدسة الرؤية المشحونة بالصدق والدفء، المحصّنة ضد الاستعلاء والزيف والأقنعة والقشور والمساحيق الاصطناعية ومُكسبات الطعم والتنظيرات المحنّطة المراوغة.

من منابع الحياة اليومية القريبة نهلت عفاف صلاح مباشرة، من دون إهدار الموروث الشفاهي والمدوّن كتابيًّا وبصريًّا في السير والملاحم والحكايات الشعبية والقصص التاريخية والأسطورية، فجاء معرضها الثري بانوراما تصويرية وتسجيلية لحركة الواقع المعيش وتفاصيل العادات والتقاليد والمناسبات المجتمعية والدينية والطقوس الموسمية والاحتفالية، في الحاضر الراهن، وفي الماضي غير البعيد، ما جعل لوحاتها همزة وصل دينامية بين عدد من الأجيال المتعاقبة.

لفتت الفنانة أنظار الأكاديميين بضربات فرشاتها المتنقلة بمرونة بين التيارات والمذاهب، واصطحبت المتلقي بسلاسة إلى مجالس البيوت المصرية، والملتقيات النسوية والعائلية، والأسواق المفتوحة المزدحمة، والمقاهي والمطاعم والمتنزّهات والميادين، والمَشَاهد المحببة التي تضج بالصخب والتفاؤل والفرح وسخونة الألوان الطازجة.

لم تمنع الروح البدائية وقدرات التعلّم الذاتية، الفنانة عفاف صلاح، من تدعيم أعمالها باشتغالات وروافد ثقافية ومعرفية، فثمة هضم واعٍ للفن الفرعوني كما في عيون النسوة وملامح الشخوص وبعض الرموز والأيقونات والحليّ والزينات واللوتسات والزهور والفواكه وغيرها، إلى جانب القط الأسود والخيول والجمال والطيور، وهناك أيضًا انفتاح على الفن الإسلامي بوحداته الهندسية وتشكيلاته المنتظمة وحروفه ومنمنماته وخطوطه الزخرفية.

هذه المعطيات كلها، وغيرها، المحسوبة على الوعي، تأتي هامسة، منصهرة، في الخلفية، فيما تترك الفنانة دور البطولة دائمًا للتمرد والتحرر والثورية، ودفقات اللاوعي المندفعة في سائر الاتجاهات، واسترسالات الخيالات والأحلام والصور اللامنطقية، والدوال والترميزات الإشارية، والمعاني الإيحائية والتجريدية.

فطرية الفن، في حقيقتها، هي تلك النزعة من غير الدارسين إلى القفز فوق خرائط الأمكنة، وإحداثيات الأزمنة، والتقاط النقاط الحسّاسة في الوجود الشاسع، وفي الداخل الإنساني العميق، لترجمتها إلى أبجدية تعبيرية زاخمة تتجاوز محدودية اللغات، وتدمج ما قبل التاريخ بالمستقبل، مرورًا باللحظة الحالية، بغير اعتماد على صيغ جاهزة.

تلك النزعة الجنونية الغرائبية في الرسم، لا تتولد عادة نتيجة تدريبات ممنهجة وممارسات منضبطة متكررة، وإنما هي فيوضات هشة ابتكارية، تتجاهل القواعد والمسلّمات، ربما التي لا تدركها أو لا تتقنها، حتى لو كانت أساسية أو بديهية، من قبيل نقصان الحجم وتلاشي التفاصيل وشحوب الألوان عندما تطول المسافة، على سبيل المثال، لكن الفن الفطري لا يبقى سجينًا لهذه الاعتبارات التي يجدها خانقة.

لمستْ لوحات عفاف صلاح شغف الإنسان البدائي باسترداد خميرته الصلصالية المتبددة في عصر التصنيع والعولبة والميكنة والرقمنة، وامتلاك زمام أموره من جديد، واستعادة هويته الغائبة، ومبادرته، وإقدامه، وجموحه. وقدّمت الفنانة تصوّراتها حول انعكاسات هذه البشرية، التي تفسح المجال للاحتفاء بالهواء الطلق، وتمجيد العمل اليدوي، والحِرَفِ المهارية، والامتزاج مع الطبيعة، والتعاون بين الأفراد والجماعات تحت مظلة التجانس والمودة والمؤانسة.

هكذا، وفق الفنانة عفاف صلاح، يغدو العالم قرية صغيرة، ليس بالمفهوم العولمي الكوني الذي يلغي الخصوصيات والإرادة الفردية، وإنما بالتلاصق والاحتضان والاحتواء، ليس فقط بين الإنسان وأخيه الإنسان، وإنما بين الكائن الآدمي وبقية الكائنات والمخلوقات. وفي هذه المنظومة، تؤنسن الفنانة الأشجار، وتحوّل الخلايا الحية البشرية إلى أوراق خضراء، فالكل سواء بين أرض طيبة وسماء تليق بها الأمومة.

اتكأتْ الفنانة عفاف صلاح على عناصر بيئتها المحلية بالغة الثراء، في أقصى الجنوب المصري، حيث التوازن بين الماء واليابسة على ضفاف النهر الخالد، ومعالم الحياة البكر القائمة على الزراعة والصيد وصناعة المراكب والفخّار، والمناظر الطبيعية الخلابة، وهي كلها أجواء تلقائية تشكّل منصّات مثالية لإطلاق الفن الفطري بتأثيراته المذهلة ورسائله الإقناعية وجمالياته الممتعة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها