الثلاثاء 2020/10/13

آخر تحديث: 13:18 (بيروت)

دمار إيلي كمال

الثلاثاء 2020/10/13
دمار إيلي كمال
من فيلم "المحطة الأخيرة"
increase حجم الخط decrease
من الصعب الا يحمل فيلم ايلي كمال "بيروت، المحطة الأخيرة"(*) المتفرج إلى تذكّر تلك العبارة الآثرة لصامويل بيكيت: "الدمار، الدمار، هذا هو الملجأ". إذ ذاك الفيلم يبدو، وعلى طوله، بمثابة بحث عن هذا الدمار بما هو الآثار الباقية من خطوط القطار التي كانت تتوزع بين رياق وطرابلس وبيروت. وهذا، من أجل اللجوء إليها، لا على أساس التعصب لماضيها، لكن على سبيل الإشارة إلى الحاضر الممنوع للبنان في نتيجة راهنه المقفل.

على أن كمال، وحين يقتفي الدمار، يحوّل عدسة كاميرته الى آلة لإماطة اللثام عنه، بحيث أنه مستتر، واستتاره يحصل بطرق عديدة. فهذا الدمار يبرز، وكسكك حديدية متقادمة، مخبوءاً أسفل الطرق التي تمر عليها السيارات. ولهذا، تمضي عدسة الكاميرا الى التركيز على البارز من تلك السكك في حفرة هنا أو هناك، مشيرةً إلى أنه، وتحت الأسفلت، كان هناك عالم مختلف، قوامه خطوط القطار، لكنه، لم يعد في مطرحه، بل بقاياه. كما أن الدمار نفسه يبرز، وكمحطات هذه المرة، مسوراً بما يمكن تسميته في هذه الجهة، ومن دون أن يحمل معناه على تمامه ولا على نقصانه، "الحضارة". إذ تصور آلة كمال هذا الدمار من علوٍ، يتيح لها أن تظهره محاطاً بهذه الحضارة المدينية على أشكالها البقاعية والشمالية والمركزية، وإحاطتها له تجعله من مهملاتها. فالدمار، وفي اثر هذا التحضر، من النفايات المتروكة على برها العاري، أو في العراء. وهذا، ما تقدر آلة كمال ذاتها على إبدائه حين تقترب من ذلك الدمار في الجبل، اذ يظهر أنه، ليس مهملاً فحسب، بل أنه ملتهَم من قبل القفر ايضاً.

إلا أن كمال، وبالآلة إياها، استطاع أن يتعدى إماطة اللثام عن الدمار الى تحريكه اذا صح التعبير، أو تقديمه على حياته تحديداً. فها هي آلته تمشي في هذا الدمار أينما حل، وتبديه عاصياً على الاندثار، إذ أنه راسخ في مكانه، الذي، وبدوره، صار منبتاً ومشجرةً. ففي بعض الأحيان، يظهر هذا المكان كما لو أنه واحة في صحراء، بحيث أنها، ورغم رمالها الحضارية، يبقى، وبحديده الكثير والكثيف، وبهندساته، وماكيناته، ثابتاً في أرضه. هذه هي حالة محطة القطار في رياق، مثلما أنها حالة محطة طرابلس أيضاً. وأكان الدمار هو واحة أم حيرة (الحيرة هنا أستخدمها بمعنى البقعة الخضراء العشوائية في أرض يابسة)، فعلى المقلبين، يحيل الى أنه متأقلم مع ستره، أو تسييجه، لا من أجل القبول بهما، إنما من أجل البقاء حياً على الرغم منهما. فمثلما تدير الحضارة ظهرها لهذا الدمار، أي تهمله، كذلك الدمار، فهو، ومن ناحيته، يدير ظهره لها، ويجعلها، حرفياً، من مهملاته. ففي حين أنه على لمعانه، وحركته، تجثو تلك الحضارة على تثاقلها، وقتامتها، كما لو أنها، وبإهماله وعزله، قد أهملت نفسها. مع الفارق أن الدمار لا مشكلة لديه أن يكون دماراً، أما الحضارة فتكابر على كونها من قبيله.

ولا يذهب كمال إلى الدمار بآلة اماطة اللثام، اي كاميرته، فحسب، بل مزوداً بآلة أخرى، وهي صوته، بما هو مطلق حكاياته: حكاية ترعرعه في الحرب، وحكاية اجتيازه الشرقية الى الغربية، وحكاية حبه لشارع الحمرا إلخ. كل هذه الحكايات، تمضي الى ذلك الدمار، تعين المسار صوبه، تفتح السبيل اليه، وهذا، قبل أن يتوقف الصوت، الذي يكفلها، عليه. توقف الصوت على الدمار؟ ليس له آلة، إنما إجراء، وعلامة: الاجراء هو تلوين الدمار، أي تلوين محطات القطار، القطارات، سككها، أرجائها، والعلامة هو صبغه بالأحمر. فلا يمكن سوى الحسبان، وعندما يكرر كمال هذا التلوين، سوى أنه يتوقف على الدمار، يجعله مكاناً أحمراً، أو قرمزياً بالتحديد. إذ أن حُمرته هي حُمرة التوقف عليه، صحيح، غير أنها حُمرة ضخ الدم فيه ايضاً. بالتالي، وفي اثر اجراء التلوين وعلامته الأرجوانية، يغدو الدمار ذاك بمثابة محل توقف على حياة ما. لماذا؟

يبدأ ايلي كمال فيلمه بالقول أن له محلاً في البلاد، وعندما ينهيه، يغير قوله ذاك بألا محل فيه، وهذا، لأنها صار ملكية خاصة. وبين القولين، المشهد نفسه، اي بقايا من خطوط القطار في سحاب من ضباب. عند القول الأول، يبدو أنه سيكشف عن محله في تلك البلاد بعيداً من هذا الدمار، أما، وعندما يبلغ قوله الاخير، فيكشف انه لم يجد هذا المحل، لكن، لجأ إلى هذا  الدمار. فالدمار ينقلب الى المحل الوحيد في أرض ليست عمراناً، وفي الوقت نفسه، تكابر على انها خراب.

(*) عُرض ضمن مهرجان الأفلام اللبنانية في باريس. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها