الخميس 2020/01/30

آخر تحديث: 15:39 (بيروت)

"عام الجليد" لرائد وحش: الفانتازيا بلا سياسة واجتماع.. مستحيلة

الخميس 2020/01/30
"عام الجليد" لرائد وحش: الفانتازيا بلا سياسة واجتماع.. مستحيلة
رائد وحش
increase حجم الخط decrease
يبتكر رائد وحش في روايته "عام الجليد"، شخصية سبارتكوس المفرط الخيال، صاحب الإستيهامات الفانتازية، والرؤى التجريبية لتجاوز الواقع. ففي الفصل الأول "بول الشيطان"، تتحدث الرواية عن علاقة استيهامات بين سبارتكوس والغيوم، وتروي عن اعتقاد سبارتكوس وإقناع أصدقائه بأن جده هو الله، وحينما ينقل له والده شعور الذنب، يعتقد سبارتكوس أن بول الشيطان في داخله. يتخيل مخده من المخدات التي تخيطها أمه رجلاً آلياً، ويصنع من علبة بلاستيكية آلة موسيقية، وحين تموت والدته يحلم بالمشي على الهواء، ويتخيل الطيران مع والده، ويتساءل بعمق: "ما هي الروح؟"

هذه الأفكار الروائية التي تبدو للوهلة الولى طفولية، سطحية، وسهلة الإبتكار، لا تلبث أن تتبلور غاية الكاتب منها مع تقدم الرواية، لنكتشف أنها عوالم مختارة ومبنية بعناية من قبل المؤلف، فهو جعل منها اختباراً في بناء عالم فانتازي، خيالي، استيهامي، طارحاً للأسئلة الفلسفية بطريقة غير نمطية، بل عبر ألعاب الدهشة، والإكتشاف والبساطة العميقة.

في الفصل الثاني "تنويمة للأب الصغير"، تتشكل سمات أكثر رمزية في شخصية سبارتكوس، منها التماهي مع الطبيعة: "تطورت علاقة سبارتكوس القديمة مع الغيم لتشمل كل شيء في الطبيعة: النجوم والقمر والمطر والضباب والغروب والفجر. يتخيل نفسه أحياناً يعيش في واحدة من تلك الأشياء، متحولاً إلى شكل آخر"، من ثم ليكتشف سبارتكوس العالم الجنسي، واصلاً لقناعة أن الإحتلام ماء يتدفق في الأحلام. ثم يكتشف سبارتكوس عاشقاً للخرائط معتبراً أن الجغرافيا هي صاحبة القرار الوحيد في مكان الحياة وشكلها، بسبب سطوتها التي لا تستطيع أعتى الأسلحة أن تهزمها. وتتشكل سمات سبارتكوس كعاشق لعفوية الأشياء حين نتعرف كراهيته للعلم: "شعر أن العِلم وغد موجود كي يفسد أجمل التخيلات، يمنحها قوانين منطقية"، وفي هذا الفصل نكتشف أن سبارتكوس ليس منقاداً للخيالات والإستيهامات، بل هو من اختارها كسبب للغياب عن العالم وتجاوزه.

في الفصل الثالث "في بلاد العجائب" تتعمق تخيلات وتجاب سبارتكوس في التماهي مع الطبيعة، فيحادث السحلية ليسألها عن الإنسان القديم من عصور ما قبل التاريخ، ويستمع إلى شكوى الأفعى مما أصابها به البشر من دورها في حكاية الخلق، ويباري سمكة في السباحة، ويؤمن بأن الأحلام فاكهة تنمو على أغصان الدماغ، وما الحلم إلا قطاف لهذه الثمار وإلتهامها. هناك حلم بطعم الدراق، وحلم بمذاق الكرز. والدماغ شجرة تنمو عليها أشياء تتحول إلى أحلام. أما من دورس العلوم فيحتفظ بتلك الصورة عن تشكل الجنين على مراحل، يبدأ الجنين بشكل أقرب إلى الدودة، ثم إلى شكل قريب من شكل السمكة، ليصبح حيوان رباعي الأرجل، وصولاً إلى الصورة الإنسانية.

وتأخذ استيهاماته الجنسية طابعاً أشد شهوانيةً، فينطلق عضوه من مكانه متحولاً إلى سمكة، ويدور حول الفتيات في الماء، يرفعهن فوق نافورة عاريات بكامل فتنتهن. ويبقى سبارتكوس على تعلقه بالخرائط والأطالس: "ليس في الأطالس دماء، هناك بحيرات وأنهار وبحار، وليس فيها تلال من الجماجم والهياكل العظمية، بل هضاب وجبال نتسلقها كي نشتم هواء يغسلنا من الداخل"، حتى للقبور هناك خرائط كما يعتقد سبارتكوس.

لكن ما يحمله هذا الفصل من جديد هو الأسئلة والتجارب الوجودية التي يعايشها سبارتكوس، فهو يحفر قبراً ويدخله ويهيل على جسده التراب لمعايشة تجربة القبر، فيفكر حينها في الولادة: "لماذا فكرت بالولادة وبمراحلها المختلفة، مع أنك كنت في القبر؟ أتراني انشغلت بذلك لأن الإنسان ينتهي إلى القبر؟ لا، لا، القبر رحم آخر، رحم أبديّ لا نخرج منه"، تجربة ذاتية-نفسية أخرى يقوم بها سبارتكوس عندما يرغب أن يعاقب ذاته، فيصنع فزاعة من تصالب خشبتين، ويُلبس الفزاعة قميصه ويتخذ أمامها وضعية الرامي وهو يحمل بندقية ليصيبها إصابة قاتلة، وهو يصرخ على نفسه: "سافل، حقير، رخيص. جثا وسدد بمهارة نحو الهدف، وبينما هوت الفزاعة على الأرض اكتشف سره: أوووه، قتل نفسه إذاً".

في الفصل الرابع "الإستحضار الصيفي"، يروي رائد وحش تجربة الثورات العربية، وخصوصاً تجربة المجتمع السوري منذ العام 2011. لا تسمى الأماكن أو الأحداث بأسمائها، لكن قيام الثورة يدفعه للتساؤل عن الحرية بحثاً عن المعنى في تلك الكلمة التي جعلت الناس يضعون أنفسهم في مواجهة ذلك العنف كله.

يعتبر سبارتكوس نفسه حراً كلياً، يسبح ويركض عارياً، يستمني في الهواء الطلق، ويصنع بخياله ما يعجز عنه في الواقع، ويذهب إلى أماكن جديدة بالأحلام، لكنه رغم اكتفائه من الحرية، لا يلبث أن يجد نفسه منقاداً للوقوف مع الضحايا: "منذ أن شاهد بعينيه ردّ الفعل الوحشي مع المتظاهرين قرر ألا يكون صامتاً. في بلاد يتحكم فيها وحوش كهؤلاء من الممكن أن أموت من دون أن أفعل شيئاً. كما مات أبرياء عديدون لم يقترفوا أي ذنب. أنا طالب ثأر مسبق لنفسي، ولكل المظاليم أيضاً".

يعيش سبارتكوس كل تجارب المعاناة التي تعيشها المجتمعات المقموعة. قمع المتظاهرين، سقوط صواريخ مدوية على قريته، إضطراره الهروب من القصف وهو يحمل والده على ظهره، يقف مع الأهالي ليراقب كيف تشتعل بيوت القرية بالصواريخ، ويشهد كيف تسرق المنازل في المناطق المقصوفة، وراح يروي الحكايات التي تتحدث عن الشجاعة للأطفال في الملاجئ ليعلمهم تحدي الخوف. ثم يعيش تجربة الحصار ونقصان الطعام لوالده، ويشاهد عمليات التعذيب والإعدامات، ليشكل أخيراً فكرته عن الحرب: "الحرب حيث تنهار كل أسباب القوة التي يمتلكها العقلاء، وينتقل التفوق بشكل طبيعي إلى المجانين أو فاقدي الوعي".

الفصل الخامس والأخير "سبارتكوس اللاجئين"، مخصص لتجربة اللجوء، يبدو سبارتكوس في الكامب نقيض ما كان عليه في طفولته من خيال واستيهامات، هنا هو مصاب بالجنون، محبوس بواقعية المكان، بات المشرفون يشاهدونه في ممرات المركز يركض ليصطدم بجدران وهمية غير موجودة ويقع أرضاً، ينهض المرة تلو الأخرى محاولة تجاوز جدران الوهم لكنه يسقط في كل مرة. ذلك الحالم الخيالي أصبح معاقاً بجدران وهمية. كذلك كوابيسه في الكامب تعبّر رمزياً عن حالته، فيرى نفسه مسجوناً داخل مربع في أعماق البحر، ليس ميتاً بل حياً تماماً، لكنه مهما سبح يبقى في النقطة ذاتها، وأحياناً يكون الحبس أشجاراً تلتف من حوله، وينهمك بالركض دون الوصول.

بالنسبة إلى سبارتكوس، الكامب عالم شبيه بعوالم رواية جورج أورويل (1984)، حاجز في الهواء يمنع النزلاء من الخروج من الكامب، دوريات شرطة تراقب العمل، وبطاقات إلكترونية تمرر على جسد الموظف ليعرف إن أكمل مهامه، فينطق صوت آلي منها: "أتم الغريب عمله"، وهكذا، في كل زاوية من زوايا الكامب، صار يطلع له صوت أستاذ طفولته (أطلس) وهو يعيد ويكرر: "الموتى غرباء والغرباء موتى"، لتنتهي الرواية مع موت سبارتكوس متجمداً في الثلج وهو يحاول الهروب من الكامب.

"عام الجليد" برهان تخييلي على استحالة بناء عالم فانتازي، خيالي بالكامل من دون أن يرتبط بالموضوعات والقضايا الإجتماعية والسياسية. عبّر الكاتب عن ذلك بإبتكار شخصية تتمتع بكامل الحرية في الذات وفي الخيال، لكنها تتورط في تجربة المحيط الاجتماعي والصراع السياسي.

(*) صدر عن منشورات المتوسط.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها