الجمعة 2020/01/03

آخر تحديث: 13:08 (بيروت)

"نذر" فيبي صبري: الحكايات الراسخة

الجمعة 2020/01/03
"نذر" فيبي صبري: الحكايات الراسخة
متأثرة بشدة بحالة النوستالجيا الطوباوية
increase حجم الخط decrease
"غير محظوظ البطل الذي يولد في هذا الإقليم من الحكايات الراسخة".. تحتج سيلفيا بلاث في قصيدتها "عصر مرتب ونظيف" على الحكاية العميقة والمتجذرة، تلك التي تفرض نفسها على الجميع فلا تترك مكاناً لتصور العالم خارجها. هي أدركت تجربة الهامش جيداً، أن تكون امرأة تعاني المرض النفسي في حكايات عالم للرجال والأصحاء. ينسحب ما تقوله بلاث عن عصرها الذي "أحرقت آخر الساحرات قبله بثمانية عقود"، على أرشيف الحكايات المعتمدة.

لا يبدو أن ناك ما هو أكثر رسوخاً من سرديات الزمن المحفوظي (نجيب محفوظ)، في المخيلة الثقافية المصرية، والجماهيرية أيضاً، بفضل السينما. الهوس بعهد الليبرالية القصير أو العصر الذهبي، الغني بأحداثه واضطراباته يتجاوز سلطة ثلاثية محفوظ وجيله من الرواد. ففي السينما، افتتح يوسف شاهين سلسلة أفلام تعالج سيرته الذاتية، فأصبح من الكلاسيكيات، بفيلم "إسكندرية ليه؟"، مضيفاً مرتكزاً آخر لواحدة من اكثر أقاليم الحكايات مركزية في المخيلة الفنية المصرية، أي المدينة الكوزموبوليتانية أثناء الحرب العالمية الثانية. في الشاشة الصغيرة الأكثر تأثيراً، قدم أسامة أنور عكاشة نسخة شعبية للمساحة نفسها من السرديات في المواسم المبكرة من "ليالي الحلمية"، المسلسل الذي أضحى أثراً نموذجياً ومركزياً، وليس فقط في الدراما التلفزيونية، بل ويمكن تلمس بصمته في الكتابة الأدبية اليوم.

تتصدى فيبي صبري في رواياتها الأولى "نذر: حكاية هيلانة ويوسف الأرمني" لمهمة واعدة ومثيرة، أن تدخل إلى تلك المساحة الراسخة، أي الزمن المحفوظي، وبلغته أيضاً، قادمة من الهامش، الهامش المضاعف، طبقة فوق أخرى، فالراوية عن امرأة وقبطية وكذا قادمة من الأقاليم. حمل غلاف الكتاب إشارتين محفزتين، الصليب الكبير الذي يرسمه الفراغ بين مباني صورة الأبيض والأسود، وأيضاً اسم الناشر، دار "هن"، المعنية بتقديم كتابة نسوية. كيف يمكن إذاً إعادة رواية أحداث حكاية راسخة؟ وكيف تستطيع النساء الاقتراب من زمن كلاسيكي صنعه الآباء المؤسسون لأكثر من جيل، محفوظ وشاهين فعكاشة؟

لكن وبقدر الحماس للرواية كانت خيبة الأمل، تكشف فيبي في عملها الأول عن موهبة متمكنة من أدواتها، لغة رصينة ومشاهد محكمة تنحو إلي الوصفية الدقيقة المثيرة للمشاعر بشكل لافت. لكن "نذر" لا تصمد أمام توقعات لم تعد بها، فالرواية تبدو متأثرة بشدة بحالة النوستاليجيا الطوباوية التي تهيمن على مساحة واسعة من المجال الثقافي في مصر خلال العقدين الماضيين. فعلى نهج عشرات الأعمال البحثية والأفلام التسجيلية والروايات التي تناولت مؤخراً يهود مصر والإيطاليين المصريين واليونانيين المصريين والمهاجرين السوريين في مصر قبل ناصر، تتحول سردية فيبي في معظمها إلى رواية عن الأرمن المصريين.

لا تخلو أحداث الرواية من إشارات لخلفية قبطية، لكنها تظل متناثرة ومترددة، لتبدو "الأرمينية" قناعاً يمكن الاختباء خلفه لوصف تجربة "الأقلية". 

تنجرف "نذر" في تيار تاريخي يظهر تأثيره واسعاً في ساحة الرواية المصرية مؤخراً، فلا عجب أن تكون الروايتان المصريتان في لائحة "بوكر" الطويلة، تاريخيتين. ويبدو هذا التيار عاتياً إلى الحد الذي أصبحت فيه معالجة الحدث القريب زمنياً، كثورة يناير، مستهجناً بوصفه مبكراً أكثر من اللازم، ولهاثاً وراء الأحداث غير المختمرة بعد، بما لا يليق بالأدب المتأني.

نسمع الأحداث بصوت امرأة وبعينيها، لكن السردية سرعان ما تعود إلى الحكايات الراسخة. فمعظمها يدور حول مجموعة من الرجال صغار السن ومغامراتهم ونقاشاتهم وعلاقاتهم مع الآخر، النساء. شلة نصف ارستقراطية من الذكور، سياق شاهيني إلى حد كبير ولغة كلاسيكية تتبع أثار محفوظ بتوفيق كبير. يتسرب إلى هذا كله القليل مما هو نسوي أو قبطي، قليل لا يمكن إنكار تأثيره، لكنه يظل قليلاً جداً، بشكل يدعو للتأمل. فالحكايات الراسخة تبدو بالتعريف عصية على التجاوز، والتحايل عليها يكون بالتأكيد أصعب، في غمار حالة عامة من الحنين، حيث يكون الماضي مصدراً لكل شيء.  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها