الجمعة 2020/01/03

آخر تحديث: 13:21 (بيروت)

الإنتاج الثقافي بوصفه درءاً للقحل

الجمعة 2020/01/03
الإنتاج الثقافي بوصفه درءاً للقحل
فالقحل بلاء، بالتأكيد، ولكن، ما يجب أن يكون "امتياز" ايضاً.
increase حجم الخط decrease
منذ أيام، صدر عن "الصندوق العربي للثقافة والفنون-آفاق" مطبوع بعنوان "مرويات غير متوارية"، وقد تضمن مقابلات مع عدد من المنتجين الثقافيين، الذين يتحدثون عن أعمالهم. هنا، مقدمته.

لا يمكن القول إن الإنتاج الثقافي في عالم اللغة العربية بخير، فعدا عن كونه لا يزال يتأرجح بين نكران إقتصاديته من جهة، والزوال فيها من جهة أخرى، بين نفيه أنه "إنتاج" من ناحية، وتحوله إلى مجرد إنشاء لمحتوى من ناحية أخرى، لا يزال مجاله هو مجال في مرحلة الإقلاع، التي يجهد الكثير من فاعليه، أي المنتجين، في إتمامها. وهذا، على الأقل، من خلال الاستمرار في عملهم، الذي لا يتوقفون عن الإشارة فيه إلى اللوازم التي يفتقر إليها.

ولا شك أن هذه اللوازم كثيرة، من الخلل في ظروف الإنتاج، وعلى رأسها، ظرف الحرية، التي تتعلق بالتعبير، بالتوازي مع ارتباطها بالتفرغ، إلى استقرار السوق على الركود، الذي يفاقمه تقهقر عمليات التخطيط إلى إجراءات للتنفيع.

لكن، وعلى الرغم من حالته العامة تلك، فإن الإنتاج الثقافي في عالم اللغة العربية لا يتوقف عن الاتساع، وعن التنوع. فالأعمال التي تعرضها "آفاق" في هذا الكتاب بمثابة بيان حول رحابة ذلك الإنتاج، الذي، وأياً كانت عقباته، يحاول فاعلوه تخطيها بالمتاح. علماً أن أعمال هؤلاء لا تستلزم منهم إنجازها فحسب، لكن تحقيق بنى هذا الإنجاز، سياقاته، مواقفه، وتاريخه حتى.

لعل العبارة التي تشير إلى وضع المنتجين هذا، أتت على لسان المخرج علي الصافي في إطار حديثه عن فيلمه "الباب السابع"، فقد قال: "لا نتمتع بإمتياز أن نكون فنانين فقط، بل يتوجب علينا أن نكون باحثين ومؤرخين. يتوجب على الفنانين القيام بالكثير من الأشياء". على هذا النحو، الفنانون، أو المنتجون الثقافيون على العموم، هم ورثة القحل، الذي يشير إليه الصافي، والذي يثقله وإياهم. ومع ذلك، يواصلون الإنتاج لأجل الإنتهاء منه، أو محاولة هذا تحديداً، بحيث أنه قحل راسخ، لا سيما أن سلطات كثيرة تكرسه كواقع موافق لها.

حيال هذا القحل، الذي ورثوه، والذي، وفي الكثير من الأوقات، يبدو العيش في ظله شبيهاً بالعيش في صحراء قاحلة. يلتزم المنتجون الثقافيون بأن يكونوا أكثر مما هم عليه، بأن يكونوا "باحثين ومؤرخين" بالطبع، لكن، وأيضاً، أن ينطلقوا من نطاقات، لا يقصدونها بدايةً، إلا أن مواجهة الإرث إياه، واقعه وسلطاته، يدفعهم إليها، لا سيما حين تكون نطاقات فعّالة، لكنها غائبة، أو شبه معدومة حتى. 

ففرقة "مفر" لا تحظى بـ"إمتياز" التأليف الموسيقي، الذي يعرّفها كمجموعة من المجموعات الفنية، بل أن ألبومها الثاني "تأشيرة" هو مقلب من مقالب المقاومة لسلطة الاحتلال الإسرائيلي وغيرها. من هنا، تؤكد فرقة "مفر" أن سياق عملها هو سياق سياسي بامتياز، بحيث أن خوضها له بمثابة خوض لنشاط يتعدى الإنتاج بذاته. الأمر نفسه ينسحب على مشروع "فكر في طنجة" لهشام بوزيد، الذي، وبصحبة رفاقه، يجعلون من الفن سبيل الوقوف على شؤون المدينة المغربية، والسعي إلى النظر فيها عن كثب. وهذا ليس بعيون تقنية خالصة، بل بعيون مختلفة. فيتطلع هذا المشروع إلى تحقيق لقاء بين مواطني طنجة، والمنتجين الثقافيين، لكي ينشغل الطرفان في تحديد مشكلات المدينة.

ذلك أن الإنتاج الثقافي، في هذا المطاف، هو، وإذا صح التعبير، إنتاج إجتماعي، تنقعد صلاته بالإنطلاق من تقاسم الفضاء المديني، ومن الرغبة في تحسينه. على أن الإنتاج الثقافي قد يكون إنتاجاً لمقاربة، كما هي الحال في مشروع "غرفة المعيشة" لساندي هلال، بحيث أنها، وبعد انشغالها بالعمل مع اللاجئين في فلسطين المحتلة، مُعاينةً الطريقة التكنوقراطية في التعامل معهم، سعت إلى قلب هذه الطريقة، بالإرتكاز إلى مقاربة أخرى لموضوع المنفى لا تحمل على الوقوع في فخّي الضحية والبؤس. في الجهة عينها، وعندما يخرج عبد دوماني مشروعه الفوتوغرافي "الإعتيادي غير المعتاد"، الذي يتناول فيه الحصار المضروب من قبل نظام بشار الأسد على السوريين، يجد فيه توثيقاً لحقيقة ما يحدث في سوريا، وهذا، بعيداً من تغطيته الإعلامية التي تجعل المحاصَرين مجرد أرقام. فالإنتاج الفوتوغرافي هنا هو إنتاج لنظرة أخرى تقترب من الحقائق، ولا تلغيها.

وقد يكون الإنتاج الثقافي مصنوعاً ليكون في خدمة مسألة محددة، كما هو الحال في مشروع "مختبر المعلومات"، الذي يضع كل تدريباته على النمذجة والإنتاج في خدمة حقوق الإنسان الفلسطينية، أو في مشروع "أندريا"، الذي يهدف إلى تخطي الانقسام في السودان. وهذا ما يشير إليه مشروع "هواة الظلام السجن في ثقافته وممارسته-عود على المسألة السجنية في المشرق والمغرب" لـ"أمم للتوثيق والأبحاث"، بحيث يتمحور كل إنتاجه حول المسألة السجنية تلك، رامياً إلى إنشاء فضاء يجمع كل المهتمين بها. وقد لا تكون هذه المسألة سوى وجهة. فـ"حوار للمسرح المستقل والفنون الأدائية"، وفي ملتقى "لازم مسرح" في الإسكندرية، يعلق إنتاجه، من عروض وورش عمل، حول المسرح السياسي في أعقاب الربيع العربي، ساعياً إلى إعادة التأكيد على أهمية هذا المسرح، لا سيما أنه يؤدي إلى فتح الخشبة أمام المشاهدين، ولا يبقيها بعيدةً منهم.

وعند الإشارة إلى حال من أحوال الإنتاج الثقافي اياه، فقد يصح القول أنها تغيره إلى إنتاج سردي. هذا ما تنشغل به الفنانة خولة إبراهيم في مشروعها "حدود"، الذي انطلق على إثر تذكرها لرواية جدتها عن أبيها المتنقل، وفي طلعة بطولية، من الجولان إلى سوريا. فتسعى إبراهيم إلى انتاج سرد يزيل الحد بين المنطقتين، ويشكل فضاء يربطهما ببعضهما البعض.

وفي السياق، تستند الفنانة عيشة إبراهيم في عرضها الراقص "نساء 89" إلى تجارب ثلاث نسوة، خسرت كل منهن قريباً لها خلال حوادث الاقتتال بين العرب والزنوج في موريتانيا في العام 1989، لتقصها، طارحةً قضيتهن من جديد، لا سيما بعد تعرضها للكثير من الكتمان.

وهذا، أيضاً، ما ينسحب على فيلم "طرس-رحلة الصعود إلى الأعلى" للمخرج غسان حلواني، الذي يعالج فيه قضية المفقودين خلال الحرب الأهلية في لبنان، والذي يحاول من خلاله التشديد على أن كلاً منهم يقوم بحكايته، ولا يمكن للتغيرات التي تطرأ على المجال المديني، أي على بيروت بعد اتفاق الطائف، أن تمحو ذكراه، أو تفرط في تغييبه مرة أخرى. مثلما ينسحب الإنتاج السردي على "مخيم قمرة للأفلام الوثائقية"، الذي يزود المخرجين اليمنيين بالأدوات اللازمة لكي يصوروا الحوادث وحكاياتها في بلادهم المدمرة بفعل الحرب. وبالإضافة إلى كونه صنعة سردية، فالإنتاج الثقافي هو إنتاج بحثي، وأحياناً، يكون إنتاجاً متواصلاً. فها هي الفنانة جمانة مناع، وعلى متن بحثها، الذي كانت تستفهم فيه عن سوريا، ولبنان، وفلسطين، وموقعها حيال هذه البلدان، وقعت على موضوع فيلمها "بنوك خضراء". كما أن فيلم علي الصافي، "الباب السابع"، بمثابة أثر التنقيب في الأرشيف والذاكرة في مواجهة النسيان الرسمي في المغرب.

من نافل القول إن الإنتاج الثقافي، ومثلما تبينها الأعمال المذكورة، ينطوي على تنوع في مساراته. ونافل القول أيضاً ان هذا التنوع لا ينم عن ترف، بل عن ارتطام بإرث القحل، الذي انتقل إلى المنتجين، والذي يحاولون تدبر أمره. فهم الفنانون، الباحثون، الرواة، المؤرشفون، الناشطون، المسيسون، المواطنون، الإعلاميون إلخ. وهذا، فعلياً، ما يوفر لإنتاجهم مقالب ونواحي كثيرة. لكنه، وفي الوقت نفسه، يهدده بالبقاء في وضع درء القحل، الذي، وفي بعض الأحيان، يبدو الإفراط في الإنتاج، وعندما يتحول إلى مجرد تكويم للمحتوى، مجرد تلافٍ له. على أن الدرء، وحين يطول وقته، قد ينقلب إلى تعلق، وعندها، يصير التفلت من ذلك الوضع ضرورياً. وهذا ما لا يستلزم ستر القحل بالانكار، ولا بالإكثار، إنما يتطلب البرمجة والتخطيط. فالقحل بلاء، بالتأكيد، لكنه ما يجب أن يكون "امتياز" ايضاً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها