الإثنين 2020/01/27

آخر تحديث: 15:15 (بيروت)

قاهرة "قارم قارت".. مانيفستو غرافيتي افتراضي

الإثنين 2020/01/27
increase حجم الخط decrease
هوية الإنسان من هوية المدينة التي يقطنها، وتسكن هي قلبه، وتستعمر روحه وضميره. وشخصية المدينة من ألوان معمارها وظلاله، وخصوصية تركيبته، وأسرار نسيجه الحي. وإذا كانت القاهرة التاريخية قد اقتربت بجمالياتها البصرية من أن تكون متحفًا مفتوحًا، زاخمًا بالعراقة ومقوّمات الحضارة والعنفوان البشري، فإن الحالة المعمارية التي باتت عليها القاهرة في الوقت الراهن هي صورة مصغّرة للانهيار والتفتت والعشوائية والفوضى، بعدما طاولت يدُ التراجع والتدني كلَّ شيء.

"لماذا البنايات لديكم كلها باللون الترابي؟!"، سؤال بريء أطلقه سائح في القاهرة مؤخرًا، ظنًّا منه أن اللون الترابي هو اختيار وفلسفة، مثلما أن بعض المدن اختارت الأبيض (كازابلانكا) والأحمر الطوبي (مراكش)، لكن ما لم يدُر في خُلد السائل، أن ذلك اللون الكالح الذي يغطي وجه القاهرة بالكامل، قديمه وجديده، هو مزيج الغبار والأتربة والأسمنت، وهو لون مفروض بقوة التلوث، ليس فقط على العيون، وإنما على الأنوف كذلك، وعلى سائر الحواسّ المنكوبة.


لربما تكون القاهرة الأخرى، الافتراضية، أكثر جمالًا وسحرًا مما هي عليه بالفعل، وليكن موقعها المتخيل في  خريطة الفن، وليس في أطلس الجغرافيا وصفحات التاريخ! من هنا، انطلق الفنان الإيطالي كارمينيه كارتولانو (الشهير بـ"قارم قارت")، المقيم في القاهرة منذ أكثر من عشرين عامًا، في معرضه "مانيفستو غرافيتي افتراضي" المنعقد حاليًا في قاعة "مشربية" للفن المعاصر في القاهرة (19 يناير/كانون الثاني - 23  فبراير/شباط)، ساعيًا إلى خلع أنفاس الحياة ومشاعر البشر الدافئة على الكتل الجامدة.

القاهرة، نبض الشباب وجماهير ثورة يناير 2011، حلم التمرد والانفلات، جنون العشق والرغبة في التغيير، الحنين إلى الماضي وزمن الفن الجميل، شريط سينما الأبيض والأسود وأبطالها المشاهير في المشرق والمغرب، اختلاط الأزمنة والأمكنة والأجناس والأعراق، مسرح الحضارات المتعاقبة منذ الفراعنة، عربات الترمس والبطاطا وكيزان الذرة المشوية، البوابات والأسوار والقلاع التاريخية والأهرام الشامخة، مجمّع التحرير وأُسود قصر النيل وميدان الثوار، مراكب الصيد والتنزّه في النهر المتدفق، حوانيت الحرف التقليدية والصناعات اليدوية، صفوف المطاعم والمقاهي الحافلة بما لذ وطاب، كلها عناصر شكّلت التوليفة المزاجية الخاصة بعاشق القاهرة "قارم قارت"، ذلك الفنان المغامر، غريب الأطوار، متعدد المواهب بين الرسم والتصوير والتطريز والكتابة والترجمة، الذي يتعاطى مع الفن بوصفه مرحًا ولعبة طفولية في الأساس.

الدهشة هي عنوان معرض قارم قارت (48 عامًا)، فهو يبني بالصور والأخيلة قاهرته التي أوصلته إليها دون غيره خيولُ فتوحاته، دامجًا الموروث الكائن في الذكرى بعد استدعائه بصيغة معاصرة، والواقعي الرديء الممزق، والسينمائي المشرق في أفلام ما بين الأربعينات والسبعينات. فإذ باللون الترابي الأسمنتي (صبغة القاهرة) يعانق الألوان الناصعة التي كانت تزين ملصقات الشوارع والجدران في الماضي. وإذ بنثارات الزحام والصخب، تراقص رموز الثقافة الشعبية وأيقوناتها، لتبدو المدينة بأكملها مثل لوحة إعلانية عملاقة، تتماوج فيها الأضواء.

اقترن انتشار الغرافيتي (فن التصوير والكتابة على الجدران) في مصر، بثورة 25 يناير، حيث عكست تلك الرسوم والحروف والكتابات والصور على الحوائط، حالة المد الثوري والتعبير العفوي عما يجيش في الصدور، وأطلقت بخاخات الفنانين رسائلها التي لم تكن فنية فقط، وإنما استوعبت دلالات واسعة اجتماعية وسياسية واقتصادية. وقد لقي هذا الفن الجديد قبولًا كبيرًا، خصوصًا لدى الشباب، إذ كسر حاجز الرهبة والهيبة، وحطم أطر القاعات النخبوية، وتنفس الهواء الطلق، وحقق ما لم تحققه الفنون الكلاسيكية المحنطة من التفاعلية ومسايرة الوقائع والأحداث.

بروح هذه الثورة، الميدانية والفنية، خاض "قارم قارت" غمار تجربته الافتراضية، ناسجًا "شوارع وسط البلد" بأصابع مصرية صميمة تتحدى المنطق ولا تعرف المستحيل، وكأنما "أطباق الساتلايت" التي تظهر في أعماله هي قرون استشعار والتقاط بعيدة المدى، قادرة على استدعاء كل ما يمكن تصوّره في الشأن المصري الخاص والعام، من خلال دلالات الأبنية وتعبيرات الوجوه والبشر، من أبطال السينما (عمر الشريف، فاتن حمامة، شادية، محمد عبد الوهاب، رشدي أباظة، الخ)، ومن العاديين البسطاء (ماسح الأحذية، بائع الأنابيب، عامل البناء، الكنّاس، الخ).


من عوامل نجاح الفنان "قارم قارت" في معرضه "مانيفستو غرافيتي افتراضي"، اتكاؤه على ذلك الإيهام الذكي، بمحو الحد الفاصل بين الحقيقي والمختلق، والموجود والخرافي، فالمدينة التي يرجوها الفنان هي أجمل من ظهورها الفوضوي الباهت، والصور والوجوه الملصقة على الجدران والأبنية تبدو طبيعية، وكأنها مطبوعة بالفعل، والتناقضات هي دائمًا كلمة السر، لإبراز المحاسن والمساوئ، وتوليد المفارقة، وإحداث ما يشبه الصدمة الكاريكاتيرية لدى المتلقي، بما يحقق التأثير المنشود.

اقتنص قارم قارت، بخفة، ملامح الشخصية المصرية، بما لديها من عفوية وبهجة وقدرة على الصمود والمقاومة ومواجهة الأزمات بالسخرية والتندر. وفي قلب هذه السمات، يكمن العمق والتأمل والفلسفة، وقد تأثر الفنان بمقوّمات المصريين في أعماله التي حملت بساطة ظاهرية وعمقًا داخليًّا، وحداثة تكنيكية من دون إغفال الماضي والتمسك بالجذور.

"مانيفستو غرافيتي افتراضي" للفنان قارم قارت، لوحات وقصاصات صغيرة الحجم، لكنها باتساع جداريات كبيرة، وأبنية شاهقة، وفضاءات لانهائية، حيث تمكن الفن الرحب من تعبئة القاهرة كلها في ألبوم.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها