الخميس 2020/01/02

آخر تحديث: 13:44 (بيروت)

"مذكرات النفي".. مصطفى النحاس يعيد كتابة تاريخ مصر

الخميس 2020/01/02
increase حجم الخط decrease
من اللافت أن يتجدد الحديث عن ثورة 1919 في مئويتها، كأن التاريخ يسخر من هؤلاء الذين حاولوا طمسه في الماضي، إذ من المعروف أن هذه الثورة قد نالت من التشويه على أيدي نخبة ضباط يوليو، ما يكفيها وزيادة، ليس إلا لأن يوليو اعتبرت أهلها – أهل ثورة 1919 وحزب الوفد – ضمن الذين ثاروا عليهم وأزاحوهم من طبقة الحكم العام 1952.

وبينما حلت مئوية 1919 في مارس/آذار الماضي، واحتفت نخبة قليلة من مؤرخي مصر بأحداث الثورة، ففي حفلة نظمتها "دار الشروق" المصرية لمناقشة كتاب "مصطفى النحاس مذكرات النفي"، الذي حققه عماد أبو غازي أستاذ علم الوثائق والمكتبات في جامعة القاهرة ووزير الثقافة الأسبق في وزارة عصام شرف، شكت هذه النخبة من أن الشباب لم يلتف حول الاحتفال بمئوية 1919، وكان حضورهم باهتاً.

في الكتاب الذي بين أيدينا المعنون "مصطفى النحاس- مذكرات النفي"(*) أوراق جديدة ملتهبة، تكشف صفحات مهملة عن عمد، من تاريخ المحروسة، اختُصرت إلى سطر في كتب التاريخ المدرسية يقول: "وتم نفي سعد زغلول للمرة الثانية إلى جزيرة سيشيل". وبينما لا يعرف أكثر من درسوا هذه العبارة، أسباب هذا النفي الثاني، ففي مقدمة الكتاب يوضح عماد أبو غازي أسباب هذا النفي، عبر دفق معلومات تاريخية مكثفة يقود بها قارئ الكتاب إلى هذا البطل المنسي مصطفى النحاس، الذي عزلته نخبة يوليو وضباطها، 13 عاماً، فإذا بجنازته تنفجر في وجوههم كاشفة حب المصريين له وعدم نسيانهم لدوره في محاولة تكريس حكم ديموقراطي مدني قبل أن ينقض عليه حراك يوليو، مطيحاً أحلام المصريين عن تعددية حزبية وديموقراطية برلمانية حقيقية غير مصطنعة وغير مفبركة.

مصطفى النحاس هو أحد رفاق سعد زغلول البارزين، إذ لعب دوراً خطيراً في المشهد السياسي المصري بدأ منذ فوزه بعضوية مجلس النواب المصري في أول انتخابات برلمانية أجريت على أساس دستور 1923، ثم شارك في أول حكومة وفدية تشكلت بناء على نتيجة هذه الانتخابات التي اكتسحها الوفد المصري في 28 يناير 1924، وكان النحاس فيها وزيراً للمواصلات، ثم أصبح رئيساً لمجلس النواب في 1927، وهو العام نفسه الذي صار فيه رئيساً لحزب الوفد عقب وفاة سعد، ثم صار رئيساً للوزراء للمرة الأولى في مارس 1928، وتولى النحاس هذا المنصب سبع مرات، في الفترة من مارس 1928، حتى يناير 1952. ويبلغ مجموع ما قضاه النحاس في الحكم، سبع سنوات وبضعة أسابيع، وانتهى حكمه بانقلاب دستوري دبّره الملك بمباركة الإنكليز، وكان في وزارته الأخيرة قد ألغى معاهدة 1936، وهي الوزارة التي أقالها الملك فاروق في 27 يناير 1952، عقب حريق القاهرة يوم 26 متخذاً منه سبباً لإقالته.

هذه هي المرة الأولى التي تُنشر فيها مذكرات لمصطفى النحاس، حسبما يشير عماد أبو غازي في مقدمته، ويقول إنها وصلت إليه عبر القطب الوفدي الكبير فؤاد بدراوي، وكانت ضمن الأوراق التي انتقلت إلى حيازة فؤاد باشا سراج الدين، بعد وفاة السيدة زينب الوكيل، حرم النحاس، وحينما سُلّم منزل النحاس باشا في حي غاردن سيتي في وسط القاهرة، حافظ سراج الدين طيلة عقود على المذكرات، حتى وصلت إلى يد عماد أبوغازي.

يلفت وزير الثقافة الأسبق إلى أن قيمة المذكرات تنبع من كونها الأولى التي خُطت بيد مصطفى النحاس نفسه، غير المذكرات التي نشرها أحمد عز الدين ونسبها له، وكانت تلك بقلم محمد كامل البنا الذي كان سكرتيراً لمصطفى النحاس، ودوّنها بشكل متفرق، أي أن النحاس باشا نفسه لم يُملِها عليه.

تنقسم المذكرات إلى ثلاث كراسات، خط النحاس في أولها عبارة "عهد العنف والشدة والإرهاب"، ومهّد لأسباب نفيه هو وسعد باشا زغلول، الذي يشير إليه دائماً بكلمة "الرئيس"، لافتاً إلى الصدام الذي وقع بين زغلول وعدلي يكن، في إبريل 1921، حينما طلب الأخير من رئيس حزب الوفد التنسيق للمشاركة في المفاوضات، بعدما أمضى سعد أكثر من عامين خارج مصر عقب منفاه الأولى إلى مالطة، في 8 مارس 1919. وهو ما أدى إلى اشتعال الثورة، مما أجبر اللورد ملنر، وزير المستعمرات البريطاني، إلى دعوته إلى لندن في يونيو 1920.

تمسك سعد زغلول، في اتفاقه مع عدلي يكن، بحصول مصر على استقلالها الكامل، وإلغاء الأحكام العرفية، وأن تكون الأغلبية العددية للوفد في فريق التفاوض، وأن يرأسه، وهو ما جعل يكن يرفض الشرط الأخير، وفي 19 مايو 1921، أصدر السلطان أحمد فؤاد مرسوماً بتشكيل الوفد الرسمي برئاسة عدلي يكن رئيس الوزراء، مما أغضب سعد زغلول، كونه ممثل رأي الأمة والمفوض منها. وكانت بريطانيا الخارجة من الحرب الكبرى، أو العالمية الأولى، منتصرة، قد ازدادت تمسكاً بوجودها العسكري في مصر، وحدث ما توقعه سعد، إذ عرضت الدولة المستعمرة مشروعاً، هو احتلال صريح، رفضت فيه أي تمثيل خارجي لمصر مع دول العالم، فحرّض زغلول الرأي العام ضد الحكومة وضد سلطات الاحتلال الإنكليزي، مما حدا بسلطة الاحتلال أن تنفي سعد إلى سيشيل غضباً منه لتعمّده تسخين المشهد المصري ضد المفاوضات مع يكن، الذي رفض فعلاً القبض على سعد مع تقدمه باستقالته عقب فشل المفاوضات.

من المزايا العديدة للكتاب، أن مقدمة الدكتور عماد أبو غازي التي تمهّد للقارئ ما سيتعرض له من يوميات غامضة وشديدة التشابك مع الواقع المصري آنذاك، تعينه على مراجعة ذاكرته وتنشيطها ومعرفة أجواء مصر خلال الأحداث التي يرويها النحاس بنفسه هو ورفاقه المنفي معهم: "فتح الله بركات" و"عاطف بركات" و"سينوت حنا" و"مكرم عبيد"، بعد القبض عليهم في ديسمبر 1921، ونفيهم لفترة قاربت عاماً ونصف العام.

والمذكرات تغطي الفترة من 19 ديسمبر، مروية بطريقة اليوميات، ولا تخلو من الطرائف، إذ يخلط فيها النحاس باشا سيرتهم اليومية مع مناقشاتهم وخلافاتهم حول ما يحدث في مصر، وتكهناتهم حينما تنقطع الصحف عن المجيء بانتظام إليهم، بما يشي أن ثمة قلاقل وتوترات تحدث في الوطن، إذ لم تهدأ المشاحنات ولا المظاهرات ولا حركات الكفاح المسلحة ضد الإنكليز منذ نفي سعد ورفاقه، وتختلط بكل هذه اللحظات الخطيرة والمهمة لحظات إنسانية يقف أمامها قارئ اليوم في ظرف تاريخي مختلف، متعجباً من تبدل أحوال المصريين طيلة هذه العقود. فهؤلاء الذين نقرأ عنهم في المذكرات، كانوا يرسلون برقيات التعاطف والتضامن مع سعد في تلك الجزيرة البعيدة الملقاة بعيداً في المحيط الهندي في مواجهة ساحل إفريقيا الشرقي وعلى بعد 1600 كيلومتر منه، غير هؤلاء الذين سيقرأون المذكرات وأغلبهم مؤيد وصامت وراضخ لأوضاع غير ديموقراطية والكثير منها مستبدة.

تلغرافات 
في زمن لم يعرف الانترنت أو الـ"إس.إم.إس"، بطبيعة الحال، كانت وسيلة التواصل السريعة بين المنفيين في جنوب القارة الشرقي وذويهم في مصر، هي التلغراف. يكتشف قارئ الكتاب كيف نجح قادة ثورة 1919 في إرسال معلومات بتلغرافات مشفرة إلى أهاليهم أو إلى أقاربهم، واستقبال أخرى تحوي معلومات خطيرة مرت تحت أنوف وأسماع وعيون سلطة الاحتلال الباطشة التي كانت تراقب خطاباتهم عبر الحاكم الإداري في "سيشيل"، إذ كان هذا يتلقى خطابات الأهل، ويعيد إرسالها للفحص والتفتيش قبل إعادتها إليهم. فكانت التلغرافات وسيلة المنفيين في التواصل السريع، ومعرفة تطوارات الأوضاع بشفرة متفق عليها. ففي الكراسة الثانية من المذكرات يحكي النحاس:

وبينما نتناول الشاي في الساعة 4.30 ورد إلى الرئيس ظرف داخله تلغرافان أحدهما بتاريخ 30 يونية وصل في تاريخه من الست حرمه، بأنه لم يصلها خطاب منه، وتطلب إفادتها عن الأخبار تلغرافياً فانظر كيف بلغ الأمر بالقوم أن يؤخروا تلغراف زوجة لزوجها تسأل عن أخباره مدة أربعة أيام من وصوله، والثاني من "غالي" بتاريخ الأمس 3 يوليو ووصل اليوم ونصه: أرجو تطمين الزملاء عن صحة جميع العائلات".

وقد أجمعنا على أن المقصود بهذا التلغراف إفهامنا أن حالة البلد عظيمة وأنها ملتفة حولنا.
تظهر من المذكرات إشكالية صحة سعد زغلول في المنفى، والمساومة على استمرار ممارسته للسياسة مقابل نقله لمنفى آخر، سيكون "جبل طارق" في ما بعد، وكان الذي يؤرق النحاس وسعد ومكرم وسينوت حنا، أن تعهد زغلول بالامتناع عن ممارسة السياسة يشي بهزيمة عزيمته، وهو المعروف بقوة العزيمة مما قد يهدد عزيمة الأمة بأسرها.

وتظهر في المذكرات محاورات طريفة بين سعد زغلول، وبين الطبيب الوحيد الموجود في الجزيرة والمخصص لكتابة تقارير عن حالة زغلول الصحية، بعدما أثيرت في مجلس العموم البريطاني إشكالية تدهور صحته، ومن هذه الحوارات أن الحكيم قال لسعد: كان يجب عليهم ألا يرسلوك إلى هنا، فأجابه زغلول: لم يكونوا قد أخذوا رأيك بعد.

كذلك نعرف من المذكرات كيف كان يُضيق على النحاس ورفاقه، وتقطير مخصصاتهم المالية، بزعم رخص المعيشة في الجزيرة، مع تذمّر النحاس في سطوره التي سجلها عن تدخل مدير شؤونهم في الجزيرة في ما ينفقونه، وتقييده عليهم ما يسحبونه رغم أنها من أموالهم الخاصة.

الحكومة الحاضرة تقمع كل حركة معارضة
لا يكتفي مصطفى باشا النحاس بتسجيل المناقشات والأحداث واليوميات في مذكراته، بل ينقل أيضا الكثير والكثير من وجهات نظر سعد السياسية التي تصلح أن تعبر عن أوضاع الحكم الرشيد في كل زمان، ومن ذلك مما قاله يوم 10 أغسطس 1922:

لو كانت في مصر حكومة تعمل لصالح البلاد لما عملت على إضعاف الرأي العام المعارض لها، فإنه إن كان قوياً يمكنها أن تعتمد عليه أمام العدو في اقتضاء حقوق البلاد منه، وإن أضعفته اضطرت أن تقبل من العدو كل ما يمن به عليها، ومن البلية أن الحكومة الحاضرة تقمع كل حركة معارضة بكل شدة، فإذا سكنت الحركة قالت أذنابها إنه لا توجد معارضة.


يقدم الكتاب صورة ساطعة عن تاريخ مصر، غير مسبوقة في التاريخ الحديث، وغير مدوّنة. صورة تعمّدت نخبة يوليو، بضبّاطها ومنظريها، دفنها، وتشويهها، حتى بتنا لا نعرف تفاصيلها، وينجح الكتاب في استعادتها برشاقة عبر مذكرات تُنشر للمرة الأولى، بتحقيق من عماد أبوغازي، أحد أبناء نخبة مصر المثقفة التي تولت هذه المهمة.

(*) صدر عن دار الشروق في مصر.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها