الجمعة 2020/01/17

آخر تحديث: 13:21 (بيروت)

تحطيم كاميرا البنك

الجمعة 2020/01/17
تحطيم كاميرا البنك
متظاهر في الحمرا (فايسبوك)
increase حجم الخط decrease
الكاميرات التي تعلقها المصارف في سقوفها، وفوق صرافاتها الآلية، مجرد عدسات مراقبة، ولهذا السبب، هي أكثر من ذلك. فما أن يمر من تحتها أي أحد، حتى تلتقطه، وحينها تنتجه كسارق مفترض، وبالتالي، تضعه في دائرة الشبهة إلى أن يثبت العكس. العكس؟ ينطلق من الذنب الذي تزرعه فيه، وبالتالي، لا بد أن ينفيه، وهذا، بالتكفير عنه للبنك نفسه، وما هذا الفعل سوى السبيل إلى أن يصير زبونه.

على هذا النحو، صناعة الزبون لا تبدأ على الكونتوار، لا تبدأ بعملية "فتح الحساب"، إنما تنطلق أمام البنك، في إزائه، وتحت كاميرا مراقبته تحديداً. فهذه الكاميرا هي التي تنتج أوله، هي التي تحول المار، الذي تصوره، إليه، تمتصه وتقذفه، مشرعاً في هذا التحول.

الزبون هو، في الأساس، شخص متهم، وحين "يفتح حسابه"، يبدو أنه يقدم أمواله كأضحية لنفي التهمة عنه، للتكفير عن ذنبه، متقرباً من البنك. ولكن، مع هذا، لا يغادر دائرة الشبهة، إنما، وعلى العكس، يترسخ وجوده فيها. إذ أن البنك نفسه، ولكي يحافظ عليه كزبون، لا ينقل الأموال-الأضحية إليه لتختفي فيه، إنما يتركها في متناوله لكي يسحب منها. وكلما فعل ذلك، فأخذ قسطاً منها، أو زاد عليها، بمعنى أنه تدخل فيها على العموم، يكاد يساوي هذا إلغاءه لتقديمه لها، أي تراجعه عنها، وفي النتيجة، إقلاعه عن نفي تهمته، والتكفير عن ذنبه، وعودته إليهما. هذه العودة إلى لحظة البدء سرعان ما تحمله على معاودة عملية "إثبات العكس"، تأكيده على أنه ليس سارقاً، وهذا، بالطبع، عبر تقديم أموال-أضحية أخرى للبنك. وهذا، قبل أن يتدخل فيها من جديد، فتتكرر العملية نفسها مرة تلو المرة، بطريقة لانهائية.

على أن هذه العملية، أي تقديم الأضحية ثم التدخل فيها ثم تقديمها من جديد، لا تمكن البنك من إدامة إنتاج زبونه، أو بالأحرى تطوير إنتاجه ليصير تملكاً له، لمعاشه. لذلك، يقرنها بأخرى، وهي عملية الاقتراض. بيد أنه، وبين العمليتين، ثمة مشترك، وهو فائدة تشغيل الأموال، بحيث أنها كناية عن هدية يرد بها البنك على زبونه بعد تقديمه الأضحية-الأموال له، أو بعد معاودته هذه العملية على وجه الدقة.

فهذه الهدية هي أوج العملية، هي لحظة مكافأة البنك للزبون، لحظة تشير إلى أن تكفيره عن ذنبه بدأ يحصل، بدأ يجد طريقه إلى التحقق. لكن هذا الأوج، هذه اللحظة، وحين يريد الزبون إدامتها لكي يستكمل إزاحته من دائرة الشبهة، لكي يصير بريئاً بالكامل، ينتقل إلى العملية الأخرى، وهي الإقتراض. فالقرض، وفي لحظته الأولى، يطابق لحظة الهدية، يطابقها ويضاعفها، كما لو أن الزبون قد تلقى من البنك عطية أكبر من الهدية، بحيث تفيد بأن عملية تقديم الأضحية-الأموال قد تمّت، بأنه تخلص ذنبه. لكن، في هذه اللحظة بالذات، يتجدد ذنبه، الذي يكون موضوعه تسديد قرضه. فينتقل من الذنب المفترض إلى الذنب الفعلي، كما لو أنه يقترض للانتهاء من ذنبٍ، لا يمكن أن يثبت له عكسه، ولذلك، يثبته، فيتخلص منه عبر إيجاد موضوعه في الدَّين: "نعم أنا مذنب، أنا مَدين".

هكذا، الانتقال من عملية الأضحية الى عملية الاقتراض هي انتقال من ذنب إلى ثانٍ. الأول، محتمل، ولا يمكن التكفير عنه. والثاني، هو ذنب حاصل، ويمكن التكفير عنه بتسديد الدين. لكن هذا لا يعني أن التسديد ينهي الذنب، بل يعيده إلى كونه محتملاً. بعبارة أخرى، وبعد أن يسدد الزبون قرضه، يعود إلى كونه في دائرة الشبهة، فيشرع في معاودة عملية الأضحية من جديد. كما لو أنه عاد إلى البدء، حين دخل البنك لكي يثبت له العكس بعدما التقطته الكاميرا، وأنتجته كمُتّهم.

من هنا، وحين يمضي المتظاهر إلى انتزاع كاميرا المصرف، فهو لا يطيح جهاز مراقبة فحسب، إنما، وأيضاً، بآلةٍ، كانت، وقبل أن تصير في يده، تعمل من أجل أن تحوله إلى زبون، وتدخله في عمليتين متداخلتين، ومغلقتين على بعضهما البعض. باختصار، هو يحطم آلة إنتاج الزبائن، آلة تذنّب المارين كي لا يمروا. لكنهم، ها هم، وبتحطيمها، قد مروا. تسلم الأيادي. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها