الخميس 2020/01/16

آخر تحديث: 16:53 (بيروت)

تكسير المصارف: النشوة الخطرة

الخميس 2020/01/16
تكسير المصارف: النشوة الخطرة
تكسير المصارف في شارع الحمرا (عباس سلمان)
increase حجم الخط decrease

ليست بسيطة الإشكاليات التي أثارتها جولات الغضب في شارع الحمرا، وما تلاها من تصعيد ونتائج ما زالت مستمرة في مختلف المناطق اللبنانية، لا سيما في الاعتقالات والإصابات التي أوقعتها القوى الأمنية في صفوف المتظاهرين والناشطين والإعلاميين. وسواء سمّيناه عنفاً ثورياً، أو فشّة خلق، أو اختراق الزعران للثورة السلمية، أو عودة المليشيات (كل بحسب انتمائه السلطوي أو الثوري أو المدني).. فإن اللوحة التي رسمها هذا الغضب الميداني، والتحدي الذي يطرحه الآن، شديد التعقيد والخطورة.

بات معروفاً الانقسام في الرأي والحماسة إزاء ما جرى من تكسير لواجهات المصارف وماكينات الصرّاف الآلي. وقبله وبعده، قطع الطرق، وطرد السياسيين من الأماكن العامة، والتظاهر أمام بيوت الأقطاب. لا أسف، بالطبع، على "ممتلكات" التماسيح الذين اشتركوا مع مافيات الدولة في تدميرنا جميعاً، وقد فات أوان "الحب الحب" الثوري. لكن، وفي موضوع العنف تحديداً، فلعل الوجاهة لا تجافي وجهتَي النظر معاً. 

صحيح، كما يقول المدافعون عن الغاضبين، أن هذا لم يكن عنفاً مجانياً ولا كان حبّاً في التخريب والفوضى، بل هو ردّ فعل بشري وطبيعي للناس التي تُذلّ في المصارف، وأحياناً تُحبس في غرفها ويُعتدى عليهم لفظياً وجسدياً بل وبالملاحقات القضائية، ويُجرّدون من حقوقهم المدنية على أيدي سلطات مالية محمية برجال الأمن. هو رد فعل الناس الذين تتجاهلهم السلطة، بل وما زالت تظن أنها قادرة على التلاعب بهم والتذاكي عليهم. السلطة التي ما زالت مشغولة عن الانهيار، الذي ضيّع (أو يكاد) جنى أعمارهم، ورواتبهم ومساكنهم ومدارس أولادهم وأبسط حقوقهم الاجتماعية والسياسية، بمحاصصاتها وكباشاتها الداخلية والخارجية الحقيرة. هذا العنف هو حالة ما بعد استنفاد "تعالوا نغني ونعتصم ونشتُمهم في بنوكهم ومكاتبهم". وهذا "التعدّي" على المصارف، ليس إلا الردّ على تعدّي المصارف (باعتبارها الواجهة الأبرز الآن للأزمة والسلطة) على اللبنانيين.. وسُحقاً، الآن وهنا، لـ"إتيكيت التظاهر" بعد كل ما جرى وتراكَم وتغَوَّل في لا جدواه. فمَن يمارس العسف بإجراءات غير قانونية طاولت المكوّنات الأولية والأساسية لبقاء الناس على قيد الحياة، لا يمكنه، ولا يحق له، الكلام عن انتهاكات وتعدّيات وشغب. ثم، نعم... حاكم مصرف لبنان يجب أن يُحاسب ويُساءل، باعتباره ركناً مكيناً من أركان السلطة، ومعه المصرفيون جميعاً. هذا كله صحيح، ويدفئ القلب بجرعة أدرينالين تطمئننا بأن الثورة لم تستكِن ولم تخبُ. 

غير أن هناك ما هو صحيح أيضاً في وجهة النظر المقابلة، ولو تكاثرت حولها الأسئلة المشكّكة في دوافعها. فليس سراً أن السلطة، لا سيما الثنائي الشيعي، تستخدم الشارع الآن و"تنضم إليه" لتحقيق مآرب الحصص في التشكيلة الحكومية، بعدما كانت تعتدي على المتظاهرين، تارة بأجهزتها الأمنية والعسكرية الرسمية، وطوراً برعاعها "الأهلي". وليس عصياً على الإدراك أن "الشغب" يعطي الذريعة لقوى الأمن لمزيد من القمع ولتوسيع دائرة الاعتقالات. والقول بأن التصويب على رياض سلامة وحده، الآن، يخدم أجندة الممانعة الأصيلة في السلطة، والتي تواجه عقوبات دولية، وتحديات في سوريا والعراق وإيران، وتسعى لإخراس هتاف "كلن يعني كلن"، ليس خرافة بالكامل. والرأي الناظر إلى سلمية الثورة كحجر أساس فيها، يجب الحفاظ عليه كي لا تتحول إلى ضدها، ليس ترفاً "مدنياً" خالصاً.

لكن، هناك أيضاً خوف مشروع يحيط بالرؤيتين.

خوف من حب العنف، والافتتان بجماليته وتمرده الصريح على الظلم والتعنت والفساد. تلك النشوة الغامرة. فلبنان ما زال طوائف وغرائز وجماعات، والثورة لم ولن تكون سِحراً أبيض، رغم تلاقي الناس على أوجاعهم. نظامه ما زال قوياً، وقَلبه مسارٌ طويل، أطول من ثلاثة أشهر هي عمر الثورة التي ما زالت في بدايتها. ذاكرته، ذاكرة حرب أهلية، و"حركة وطنية" تحوّلت مليشيات متحاربة. وكما أن ردّ الفعل العنفي، طبيعي ومُحق، فكذلك الخوف من انفلاته.

والخوف أيضاً مفهوم من محاولات أبلسة "المُكسّرين"، وجمعهم كلهم في سلة فوضوية "غوغائية" واحدة. وخطير هذا التبرؤ، المتفشي في وسائل التواصل الاجتماعي وبعض الإعلام، من "الزعران" الذين لا يشبهونـ"نا" ولا هم مـ"نّا"، "نحن" أصحاب الوجوه المكشوفة الذين نسير في الشوارع هاتفين مُغنّين، حاملين الورود وقارعين الطناجر، ومتعانقين عند خطوط التماس القديمة. لا شك في أن الحذر والتوجس، طبيعيان ومطلوبان هنا، من خطاب ينبثق عن الرؤية هذه لينتهي مُشرذماً للثورة، قاسماً الثوار، مُشيطناً نصف مكوناتهم على الأقل، وبالتالي لمعظم المطالب، خادماً الأوليغارشيا الحاكمة بمعيّة زعماء الطوائف وأرباب الفساد وأمراء الحرب.. وهؤلاء، بطبيعة الحال، يريدون جرّ الثورة إلى ملعبهم القذر حيث يجيدون لعباً "أجمل" بكثير مما مارسوه حتى الآن.

هكذا، تتبدى المرحلة الراهنة من عمر الثورة والسلطة معاً، مفصلية وخطيرة في آن. زمامها ذو لِجامَين، واحد في أيدي الثوار اللبنانيين، والثاني في أيدي الطغمة المستولية على البلد. الثورة المضادة تولد حكماً مع الثورة. الخطر سمة التغيير، فلا مفر، وهو المعروف بشقّ طرقه على حواف الهاويات. الثقة كل الثقة في الانتفاضة، التي يعوّل على صوغها برامج، وعلى تنظيمها لنفسها بما يتجاوز ردّ الفعل، إلى الفعل وطرح الخيارات والضغط لتنفيذها ضمن صورة واضحة لمصالح المواطنين اليوم. والإيمان كل الإيمان بأنها لن تركب الخطر إلى منتهاه الذي يملك بذوراً في تربة اجتماعية وسياسية استصلاحها، بلا شك، بند لاحق في جدول أعمال الثورة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها