الإثنين 2019/09/09

آخر تحديث: 13:17 (بيروت)

جورج دورينياك في مسقط خلقه

الإثنين 2019/09/09
increase حجم الخط decrease
على نحو الحديث عن مسقط رأس، من الممكن الاعتقاد بمسقط الخلق، بحيث أنه محل لميلاد ممارسه، والمتمكن منه، كما أنه محل اطلالته، وبعد هذا الميلاد، على دنياه. هذا فعلياً ما يخطر في بال الزائر لمعرض الفنان جورج دورينياك، الذي نُظّم في متحف مونمارتر الباريسي، إذ إن حيّه هذا هو مسقطه خلقه: أتى اليه العام 1898 من بوردو لكي يتعلم الرسم في معهد الفنون الجميلة بباريس. في بيته، راح دورينياك يفتش عن الإمساك بخطه، متتلمذاً في البداية، على الشهير ليون بونا، قبل أن يترك التحصيل الاكاديمي، ويقرر أن يعلّم نفسه بنفسه.

لا يمكن، وبحسب اللوحات الثمانين المعلقة في المعرض، سوى التنبه الى كون دورينياك قد صنع عبرها مساراً، وإن قُسم، بحسب العنوان، أجساداً وارواحاً، أدرك جمعها، وابداؤها في أمر بعينه، وهو الانفعال. إذ إنه، في الواقع، يبدي الثانية في الاولى، والعكس أيضاً، من خلاله استقراره في ملمح وجه، كما في البورتريه، أو في وضعية جسد، كما في المَنظرة الفيزيقية. وفي أثناء استقراره، يستحصل على لونه، الذي لا يشتد فيه فحسب، إنما غالبا ما يبرز كما لو أنه ينتجه.

ففي حال الاشارة إلى طريقة المشاهدة لأعمال دورينياك، من المتاح القول إنها تبدأ بالبحث عن ذلك الانفعال ثم ملاحقة تأليفه المرسوم كله، أي أن هذا المرسوم، وبعبارة اخرى، لا يصدر عن سواه. وبصدوره عنه، يتكون، ويتلون، وعندها بالتحديد،  يصير منه. فخط دورينياك هو حمل لهذا الإصدار، اصدار المرسوم من الانفعال، وتعيين له. في الكثير من الأحيان، يستوي الخط دائرياً، يحيط بالوجه أو الجسد، ويحول دون ترك الانفعال لهما. لأنهما، إن جرى ذلك، يفقدان علتهما، ويتساقطان. الخط يبقيه فيهما، أو بالأحرى يحرسه بهما، ليغدو داخلهما. ففي داخل كل رسم "دورينياكي"، ثمة انفعال يشكل خالصه.

في مرحلة من عيشه، كان هذا الانفعال هو الوجع، الذي يحمل الأجساد، اصحابها، على التكور والاعتصار، وحينها، تحمر، كأنها تدنو من دمها، الذي ينسكب فيها ومنها، ويجعل كل ما حولها بلونه. وفي مرحلة ثانية، تخففت الحمرة، وطلع السواد منها، وحينها، ما كان الانفعال هو الوجع، بل تبدل إلى شبيه الاغتمام. وعلى اثره، انتقلت الأجساد من تكورها إلى توحدها، أو إلى انفرادها به، حيث ظهرت تتعرض لالتهامه، لا سيما من نواحي عيونها، ووجناتها. كما لو أن الاغتمام يأكل الطلعة، ويمحوها. وفي مرحلة ثالثة، اهتمّ ألم دورينياك بانفعال العاملات والعمال في الزراعة والصناعة خلال بذلهم للجهد، وبهذا، تحول الانفعال في رسومه إلى العناء. لا مبالغة هنا في الإشارة إلى أن واحدة من لوحات الفنان القيمة هي لوحة، يظهر فيها عامل يجذب بيديه طرف حبل مقصوص. كل جسده مجذوب من الحبل هذا، ولا يمكن الجزم في كونه قد بُتر مع شده، أو أنه كان على هذا الوضع دوماً. في الحالة الأولى، عناء العامل يؤدى إلى سداه، وفي الحالة الثانية، يكون، ومن أصله، عبثاً بعبث.

ربما، مرحلة جعل العناء مرسوماً طبعت كل المراحل من بعدها، بحيث أنها، ولو لم تتناول العاملات والعمال، بل راقصي الباليه على سبيل المثال، كانت تبيّنهم به. لكن، فعلياً، من بين تلك المراحل، كانت ثمة مرحلة أساس، ختمها الفنان برحيله، وهي مرحلة الوجوه والأجساد الداكنة، المعتمة، الحالكة، التي تشكل، وعلى اختلافها، علامة على أن الانفعال قد بدأ يتسرب منها، وما عاد في مقدورها حراسته، بل إنه يكسفها، ويغمرها بالكامل. الانفعال فوق الوجه والجسد لا يعني ان روحها تنصرف منها، بل أنها تنزل فيهما، ولا تتوقف عن نزولها إلى أن يصيرا من دونها، فتصيبهما الحرقة، وتضطرم فيهما.

فآخر انفعال هو الحرقة، أو ما نسميه بالعربية باللذعة، وعندما يمسك بها دورينياك بخطّه، فهذا يدل على أنه يرسمها من قلب الأجساد والأرواح، من قلبه، ويصنع بها أسلوبه. "أسلوبك هو قلبك"، على قول موسيقي وشاعر راحل. والقلب، في مطاف جورج دورينياك، هو كل رسمه، الذي يصير، وبطريقة ما، وقاية لخفقانه. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها