السبت 2019/09/07

آخر تحديث: 12:43 (بيروت)

محمد أحمد شومان.. شارع حمد بين الشهادة والقبضنة(*)

السبت 2019/09/07
محمد أحمد شومان.. شارع حمد بين الشهادة والقبضنة(*)
increase حجم الخط decrease
تتمَّة سيرة الشهيد عمر حمد
بحسب ما يروي الحاج أحمد فإنَّ "عبد الغني العريسي تكلَّم مع أحد أصحابه بالفرنسية، فظنَّهم الموجودون جواسيس فرنسيين فقُبِضَ عليهم، وعندئذٍ بدَّلوا لغة كلامهم. وصودف هناك وجود طبيب يُدعى أحمد حلمي، فأخرج من جيبه صورة وأنعم فيها، ثمَّ نظر إلى العريسي فعرفه". وهكذا قبض عليهما وأُخِذا مخفورين إلى سجن عاليه.

عند وصولهما إلى جبل لبنان، "أُخِذَ عبد الغني العريسي إلى صوفر، إلى عند جمال باشا، فأوعز له هذا أن يتكلَّم عن رفاقه "فلا تظلم نفسك وتكلَّم، ولك من الوظائف والأموال ما تريد". فما كان من العريسي إلا تحدث عن رفاقه، وإثر إفادته قبض جماعة الباشا على المزيد من الوطنيين. وقد غضب عمر من عبد الغني لإدلائه بالمعلومات فردَّ عليه قائلاً: "لربما إذا وسَّعنا القضية ضاقت".

وكان كل واحدٍ منهم يغني بالفرنسية ما كان أدلى به من إفادة بقصد أن لا يفهم العسكر العثمنلي ما يدور من كلام. وكان الشيخ أحمد طبارة يتظاهر بأنه يقرأ القرآن ويحكي ما أدلى به.

بعد ثلاثة أيام، طُلِبَ عمر وقد جاوز الليل منتصفه. وفي اليوم الأول قيل له أن يُقرَّ بأنَّ مختار بيهم وأبا علي سلام والشيخ عباس هم من أمروه بنظم القصيدة، على أن يعفوا عنه، إذا لم يفعل فسيقتلونه ويقولون للناس إنه فرَّ فقتله الحرس. "وكان جوابه: إن قتلتموني ظلمتموني، وأنا بريء وهم أبرياء. أنظروا أنتم، هل ينظم ابن ست عشرة سنة مثل هذه القصيدة؟ فرُدَّ عليه: "ومن غيرك عمر حمد؟"، فأجاب قائلاً: "هناك عمر حمد في بغداد، وهو شاعر القطرين"!

وقد سمح المجلس لأهل عمر بالاختلاء به كل نهار جمعة، فسألته أمه في أحد اللقاءات: "كيف ترى حال؟"، فقال: "نظمت قصيدة ضد أفراد، ولكن هناك أناس قتلوهم من دون أخذ إفاداتهم.. ابن القاضي والمحمصاني الصغير والعجم والخرسا.. قتلوهم كلهم من إدلائهم بإفاداتهم.. والمرجع إلى الله". فقالت له أمه: "لقد أرسلت لك أموالاً إلى دمشق، ولكن من حملها عاد بها إذ لم يجدك، فهل مددت يدك بحاجة إلى أحد؟، فأجابه عمر قائلاً: "بل لقد مدحت أميرًا عربيًّا فنفحني مئة ليرة ذهبية وأربعة جمال، ولكن العثمنلي قبض علينا في المداين وأخذوا كل ما بحوزتنا".

ويتابع الحاج أحمد روايته فيقول: ".. فيما كنت ذاهبًا إلى عملي قيل لي إنَّ مشانق في البرج قد رُفِعَت، فرحت أركض لأتفرِّج، وفوجئت بعمر ينزف دمًا من رأسه وقميصه. وقال الناس إنَّ العسكر ضربوه على رأسه بالدَّبشك فيما كان يخطب، فوقع أرضًا فحملوه ووضعوه على المشنقة".

ويختم الحاج أحمد روايته عن استشهاد شقيقه بالقول: "هذه قصة حياة عمر يرويها للتاريخ أخوه"..

وفي رثاء عمر وقعنا على نصوص ومواويل وقصائد عديدة كتبها محبُّون وأدباء ومشايخ ووجهاء بيارتة، ومنهم بشير يموت ونجيب بالوظة وعمر أفندي الميقاتي و"راعي الموال الكبير الأستاذ" أحمد أفندي الطرابلسي واللُّغوي المعلم الشيخ مصطفى الغلاييني و"الشهيد الحي" محمد الشريفي وأحمد دمشقية.

ومن أجمل ما كُتب قصيدتان نظمهما الشيخ محمد حمد شقيق الشهيد. وممَّا جاء في ترجمته أنَّه العالم العلامة وحافظ القرآن الكريم على "العَشرة"، أي على القراءات العشر. وقيل إنَّ هذا الشيخ الضرير المكلوم لم يُطق عيشًا فمات كمدًا وغمًّا، حزنًا على الشهيد المظلوم.. وقد رثاه في قصيدتين على ما هو مُثبَت، جاء في مطلع إحديهما:

يا قبر ضُمَّ الجانحين على عمر
هو ضيفك المحبوب فيك قد استقرّْ
يا قبر قد هنئت في ضيف سرى
من دار دنياه إلى دار المقرّْ
وبكت بحسرته بنو حمدٍ على
بدرٍ لهم قد كان فيهم كالقمرْ
قصفته أيدي الظالمين بغدرها
أخذته حورٌ كاللآلئ والدررْ
فجزاؤه من ربه غفرانه
طوبى له فله الإلۤه لقد غفرْ
نادى منادي الخلد أرْخِ طيبًا
في جنة المأوى مقرك يا عمرْ

***

التأسيس
بعد استشهاد عمر (1892-1916) ووفاة شقيقه الضرير الشيخ محمد، حافظ القرآن على الأحرف السبعة والقراءات العشر، كمدًا عليه، آثر الشقيقان سعيد وأحمد ابنا مصطفى حمد الانتقال من منطقة البسطة إلى رحاب ناحية جديدة من بيروت التي راحت تتمدَّد في كل الاتجاهات، وخصوصًا إلى الجنوب، فسُمِّيت بـ "طريق الجديدة" لأنها تجاوزت آخر محطات خط الترام بالقرب من جامع العرب وكلية الحرج التابعة لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية. وما لبثت هذه البيروت الجديدة أن راحت تغزو منطقة رملية تمتلئ بالصبَّار والكينا والمقابر في أراضي الداعوق وشاتيلا وصبرا. ولهذا التمدد الحتمي شؤون وشجون في عمر بيروت، وقد كانت غالبًا ما كانت تنفض عن نفسها، عبر التاريخ، أحمال السكون القاتل الذي يفت في عضد المدن، ليحولها إلى جثامين من التخلُّف والثَّبات. وقد اكتسب شارع حمد الجديد عراقًة وتاريخًا تأثُّرًا بإعدام الشاعر الحَمَدِيِّ مع كوكبة من الوطنيين اللبنانيين على أيدي الأتراك، بأمرٍ من جمال باشا السفاح. وقد قيل عن هذا الأخير، يومًا، إنه لم يكن أكثر من يهودي من يهود الدونما. ولم يكن الأمر يقف عند حدود كونه مجرد طاغية تركي، بل كان يهوديًّا يتجلبب بالإسلام .. وهكذا، فقد اكتسب الشارع نسبته إلى آل حمد رغم ابتدائه ببيت لآل الدنا وانتهائه ببناية جديدة لهم ابتنوها في أواخر الخمسينات.

يُحكى أنَّ السيد حمد عز الدين -مصري الأصل من منوف العُلَى بالمنوفية –وهو جد مصطفى أبي عمر ومحمد وأحمد وسعيد، هاجر إلى لبنان في زمن الأمير بشير الشهابي، وعمل لديه قوَّاصًا، لما كان يتمتَّع به من قوة وبأس، واستقرَّ بداية في الناعمة، ثمَّ انتقل بعدئذٍ إلى بيروت. وقد كان كريمًا ذا محتدٍ في بلاده، ثار مرَّةً لإحدى نساء عائلته عندما أهانها الوالي التركي، فقتله، وهرب إلى لبنان. وكان لحمد ابنان ولاهما الأمير جابِيَيْنِ لخراجي بيروت والبقاع، فنسلت منهما عائلتان استقرَّت إحداهما في بيروت، فيما استوطنت الثانية كفريَّا بالبقاع الغربي. وما حدث عهدَذاك أنَّ بيروت فتحت ذراعيها لمن استوطنها –ككثير من العائلات الوافدة إليها من شمال أفريقيا وفلسطين وتركيا فابتلعتهم وبَيْرَتَتْهُم حتى العظم، فأمسوا جزءًا من تاريخها. وقد تواصل فرعا العائلة الحَمَدِيَّة وحافظا على نسبهما فتصاهرا وتدامجا. إذ لم تكن هذه العائلة الصغيرة ذات عزوة، إلا أنَّ كثرة بناتها وشبابها جعلتها تتصاهر مع عائلات بيروتية أخرى، كآل فارس وصقر والبرجاوي والريس..

لم يختلف الشقيق الأصغر الحاج أحمد الذي جاور سكنه سكن شقيقه الحاج سعيد، فزوَّج أحد أبنائه من إحدى بنات شقيقه، فجمعت بين الأحفاد البقاعيين والبيارتة علاقة الخؤولة من جهة الأم. وكان الشقيقان محمد وسعيد متآلفين متعاضدين في كل أمور الحياة، ممَّا جعلهما ريِّسي الحي. إلا أنَّ محمدًا كان بسيط الملبس والقيافة، مكتفيًا بشروال أسود وشملة وقميص أبيض وطربوش أحمر وعصا لزوم التوكُّؤ وليس بغرض الوجاهة. أما الحاج سعيد فقد كان شخصية يبهرك ظاهرها كيفما نظرت. كان وجيهًا بكل المعاني، ظاهرًا وباطنًا.. وكان ريِّسًا ذا كلمة مسموعة من جميع أهل الحي.. أليس هو القبضاي المتوكِّل على الله، فكيف لا يُسمع من توكَّل على الجليل الجبَّار؟

كان الحاج سعيد يتسلح أبدًا بكامل أناقة القبضايات البيارتة، ذوي الشهامة والنبل وحب مساعدة الضعفاء. وإذا نظرت إليه أحسست أنك بإزاء المهابة عينها، إذ تثير فيك مشاعر الخوف والرهبة والاحترام في آنٍ.. ثمَّ سرعان ما يتلاشى الخوف وتختفي الرهبة ما إن يبدأ بالكلام، فيحلُّ مكانهما ودٌّ حانٍ. كلُّ ذلك مرتبط بالظاهر، ولكن ما أن يتعرَّف المرء على مآثر هذا الرجل وأياديه البيضاء في الخير حتى تجتاحه مشاعر الحب الشديد، كالذي ينتابنا حيال آبائنا في لحظات نادرة جدًّا في حياتنا. كان بهذا المعنى بطركًا.

(*) الحلقة الرابعة من مدونة لمحمد أحمد شومان نشرها في صفحته الفايسبوكية، وسبق أن نشرنا الحلقة الأولى والثانية والثالثة...
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها