السبت 2019/09/07

آخر تحديث: 11:42 (بيروت)

"سماع خانة" القاهرة.. أثر المولوية الأخير

السبت 2019/09/07
"سماع خانة" القاهرة.. أثر المولوية الأخير
"يا حضرت مولانا"
increase حجم الخط decrease
في العام 1945 تراجعت أنشطة الطائفة المولوية (أتباع مولانا جلال الدين الرومي) في القاهرة وهُجر مسرحهم (السماع خانة) أو التكية المولوية، واحتل المكان العجزة والمساكين مع ما تبقى من الدراويش، أو فلنقُل أنه عاد لوظيفته الأولى كمأوى للعجائز والفقراء.

وفي 1952 قامت الثورة، وطُرد الدراويش، وانحلت أيضاً اللجنة التي كانت قد دعمت العمل للحفاظ على منطقة المولويين وانتقلت وظيفتها في العام 1953 إلى لجنة حفظ الآثار والتي أنشأت سوراً للمدخل الرئيسي للسماع خانة، لتجنيبه أضراراً أكيدة، فضلاً عن أضرار غياب الصيانة لسنوات طويلة.

في أواخر السبعينيات عاد الاهتمام بالسماع خانة، على يد مديرة المعهد الثقافي الإيطالي في القاهرة في ذلك الوقت، د.كارلا ماريا بوري، التي استحوذ على اهتمامها المنظر المسرحي الداخلي المبهر للمبنى الذي يرجع إلى العصر العثماني، رغم أنه وقتها كان في حالة انهيار تام.

عجلت بوري في طلب الترميم، سواء من السلطات المصرية أو الإيطالية، وبالفعل بدأت العام 1979 على يد البروفيسور ج.فانفوني، إقامة موقع عمل كمدرسة لترميم المجموعة المعمارية المولوية، وتأسست أيضاً هيئة خبراء الترميم، أو مركز التأهيل المهني للترميم، للعمل في المجموعة المعمارية الملحقة. وفي العام 1988، وبمناسبة إعادة افتتاح السماع خانة للجمهور، افتُتح أيضا المركز الإيطالي المصري لترميم الآثار، بناء على برتوكول بين الحكومتين المصرية والإيطالية. وأصبح هذا المكان القِبلة الوحيدة لعشاق المولوية وفنونها. وكانت "سماع خانة" القاهرة، آخر "سماع خانة" ظلت تعمل بعد قرار إغلاق التكايا وحل طوائف الدراويش التركية.

قصة المكان ترجع إلى عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون، الذي تميزت خلاله مصر برفاهية نسبية وثراء. وكما يذكر المقريزي، فقد انغمس الكثيرون في ظل الصراع على السلطة، في بذخ بلا حدود، وفي المتع حلالاً وحراماً، وفي الوقت نفسه، فضل البعض الآخر الابتعاد وانخرطوا في التصوف والعلوم والفنون. لذلك انتشرت العمارة والبناء بشكل كبير، فشيدت المساجد والمدارس، وتشهد الوثائق بأن سنقر السعدي -الذي كان وزيراً لأهم وزارتين في عهد قلاوون وهما الداخلية والدفاع- قد أنشأ العديد من الأبنية الضخمة ومن أهمها "مجموعة ومدرسة سنقر السعدي بشارع السيوفية". وهذا العمل يعد من أهم الأعمال التي قام بها سنقر السعدي، وكانت هذه المجموعة المعمارية تتكون من "كُتّاب" لتعليم القرآن و"رباط" للسيدات والأرامل واليتامى، وأخيراً الضريح الذي كان يريد أن يدفن فيه. لكن رغبة سنقر السعدي بأن يدفن في مجموعته لم تتحقق، إذ أجبرته خلافات خطيرة مع قوصون مالك القصر المجاور له -والذي كان على علاقة قوية بالسلطان- على مغادرة البلاد والرحيل إلى سوريا حيث قضى نحبه هناك العام 1328م/728هـ....

وبمرور الوقت استخدم الشيخ ناصر صدقة، وحفيده حسن صدقة، مدرسة سنقر السعدي الأثرية الرائعة، وهي ما زالت تحمل اسم حسن صدقة حتى اليوم. وفي حين لم يحقق سنقر السعدي رغبته في أن يُدفن داخل الضريح الذي أعده لنفسه، فقد تحقق ما أراد بالنسبة لحسن صدقة، إذ عثرت البعثة الأثرية على حفر بالتابوت، يؤكد أن سنقر السعدي قد أعد هذا التابوت لسيدي حسن صدقة وربما أراد أن يدفن بجواره لكنه لم يتمكن من تحقيق رغبته.

بعدها أُلحق بالضريح ملجأ لليتامى والأرامل. ويشير بعض النصوص التركية التي تتحدث عن الطريقة المولوية، إلى رحيل وإقامة أعضاء من الطريقة في مصر، ويؤكد بعض هذه الوثائق على تواجدهم قبل الفتح العثماني. وعلى أي حال فإنه، حتى وإن لم يكن الفتح العثماني عنصراً حاسماً بالنسبة لتواجدهم، فهو على الأقل وفّر مقراً دائماً لهم. ففي العام 1607م -1016هـ  حصل المولويون الذين أقاموا في القرن السابع عشر، على ضريح حسن صدقة وعلى كل المنطقة المجاورة له التي كانت تشغلها بقايا المجموعة المعمارية لسنقر السعدي، كوقف من الأمير يوسف سنان، وإن كان بعض أساتذة التاريخ يؤكدون ضعف المعلومة السابقة، حيث يؤكدون أنه عُثر على مخطوطة تحوى أجور الفنانين العاملين في المسرح مسجّلة بتاريخ 1005هـ بما يعني أن المسرح كان قائماً قبل هذه الفترة، وكانت المباني كما أكدت أعمال التنقيب الأثري بعد ذلك في حالة من الإهمال والخراب. واقتصر المولويون على استخدام الأجزاء الصالحة فقط من المنطقة، وكانت "السماع" أو الرقصة الشعائرية تتم في الإيوان المجاور للضريح، ولم يكن يستخدم من المدرسة التي كانت قد تحولت بعض أجزائها إلى أطلال، سوى الملحقات والغرف الصغيرة المحيطة بالصحن الرئيسي. ثم تلت ذلك بوقت طويل الترميمات والأعمال التكميلية التي أعطت للمجموعة المولوية المعمارية شكلها النهائي، وذلك بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بفضل الأوقاف الإضافية التي حصلوا عليها، وفي بعض الأحيان بسبب اهتمام السلطات الحكومية ذاتها.

ومع توسع المجموعة المعمارية للدراويش المولوية في المنطقة التي تتوسط بقايا كل من مدرسة سنقر السعدي وقصر يشبك، استخدموا بقدر الإمكان الآثار الموجودة من قبل، وهيأوها للوظيفة الجديدة، بتوسيع جناح جديد في شارع السيوفية وفتح باب للمكان يؤدي مباشرة إلى الشارع. وقد استلهم المولويون عملهم من المساحة الموجودة والمتاحة ومن المواصفات المعمارية للبيت الأم في قونية، والعديد من المجموعات التقليدية للطائفة نفسها، لذا اعتبر مسرح الدراويش أو "سماع خانة" القاهرة، أبرز المنشآت التي خلفها المولويون، في الفترة التي قضوها في مصر، وتمثل قمة التطور المعماري لهذه الطائفة. كما تمثل أبلغ درجات التعبير عن الرموز الهندسية والكونية، والتي تحددها وظائف وأبعاد المساحة المعمارية التي يتم فيها "السمع" أو الرقص الصوفي عند المولويين، إذ يتيح مسرحها الخشبي الدوار أداء الرقصة الشعائرية الشهيرة للطائفة، تلك التي يتحرر فيها الدراويش من كل ما يربطهم بالأرض، يحاولون تحييد جاذبية الأرض وتحرير الذات من أية قيود قد تشكل حائلاً أمام التوحد مع الخالق. فالدرويش الحقيقي لا يمل ولا يسأم أبداً من إمكانية الوصول، مستمر في الدوران داخل دائرة ذاته، مكرراً أعمالاً ماضية، يحصر نفسه في شبكة دائرية تخصه وحده، ليصل إلى خلاص نفسه.

على حدود المسرح الدوار، تتراص الفرقة الموسيقية، لعزف الموسيقى التي سماها مولانا "موسيقى التركيز" أو "موسيقى الحكمة"، وأول أدواتها الرباب والناي رمز الإنسان نفسه، ففي "المثنوي" تحفة مولانا جلال الدين الرومي العظيمة يبحث في رمزية الأشياء، ووفقاً لرؤيته فإن الناي يعاني كالإنسان من الانفصال عن الله، ذلك الانفصال الذي ينتهي بالموت "انصت إلى الناي كيف يحكي قصته يشكو البين. قائلاً: منذ انتزعت من أعواد الغاب وأنيني جعل الرجال والنساء ينتحبون. إنني أحتاج قلباً مزقه البين، إليه يمكنني أن أشكو ألم العشق".

تتكون الرقصة الشعائرية من تركيبات مؤلفة بدقة. تبدأ وتنتهي بالقرآن وتنقسم إلى أربعة أجزاء، كل جزء منها يسمى سلام (تحية). ويتصل كل جزء بالآخر من خلال الغناء. في السلامين الأول والثاني، تغنى مختارات من "الديوان الكبير" (المثنوي) لمولانا، وفي الجزء الثالث يمكن أن تغني قصائد وأشعار أخرى لمولانا. ومع نهاية السلام الرابع ينتهي الجزء الشفوي ويكون "البشرف" الأخير هو الخاتمة، وبعد انتهاء الموسيقى يتلو المنشدون آيات من القرآن وتستمر شعيرة الدوران حتى يبدأ القرآن.

المسرح هو المكان الوحيد الذي يجمع بين الفكرين السني والشيعي؛ فنجد 8 وحدات زخرفية و8 شبابيك، دلالة على أن الجنة لها 8 أبواب وكذلك حَمَلة عرش الرحمن. ومن الفكر الشيعي نجد 12 عموداً وعلى كل منهم اسم من أسماء الأئمة الاثني عشر، ويمكن تقسيم المجموعة إلى أربع قطاعات: الأول هو منطقة التعبد نظراً لوجود السماع خانة والضريح في هذه المنطقة، ثانيا منطقة الحياة النسكية وتتألف من الحجرات التي كانت تحيط بالحديقة مع وجود الفسقية في الوسط، ثالثاً منطقة الأنشطة اليومية المشتركة حيث تعقد الاجتماعات الخاصة والصلاة والمطعم والمطبخ، وأخيراً نجد المنطقة العامة وفيها مناطق للاستقبال تفصل المجموعة عن الشارع الذي يضم مدخل التكية وحديقة كبيرة حيث يُستقبل الزائرون الذين يتوقفون في التكية أو الفقراء الذي يأتون لطلب الطعام.

مؤخراَ تم تداول اسم السماع خانة في صفحات مواقع التواصل، بعد عرض مشاهد من فيلم جديد للفنان تامر حسني قيل إنها صورت داخلها، تظهر السماع خانة كملهى ليلي داخل أحداث فيلم تامر! وكالعادة ردت وزارة الآثار بأن الأثر لم يُمس، وأن كل التركيبات كانت بعيدة عن الأجزاء الأثرية في المبنى! لغط لم يكن بالقوة الكافية ليعيد الاهتمام بالمكان المنسي، بل كانت مجرد غضبة سريعة لعشرات المهتمين به والعارفين بتاريخه. فالآلاف يمرون يومياً الآن في تلك المنطقة العامرة بالسكان، ولا يعرفون عنه شيئاً، ربما تلفت نظرهم القبة المميزة رغم أنها لا تشي بروعة وعمق التصميم الداخلي للمكان ولا بتاريخه الطويل كقِبلة للمتصوفة والدراويش والباحثين عن الطريق. 

(*) الحلقة الأولى من ملف عن جلال الدين الرومي، ينشر تباعاً في "المدن".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها