السبت 2019/09/28

آخر تحديث: 12:32 (بيروت)

كيف نتكلم عما يحدث في مصر؟

السبت 2019/09/28
كيف نتكلم عما يحدث في مصر؟
انتشرت قوات الأمن في القاهرة، الجمعة، لمنع وصول متظاهرين إلى الميادين (غيتي)
increase حجم الخط decrease
"لا تبثوا الأمل، لا تبثوا الخوف"، بغضب، تكتب واحدة من الصديقات في صفحتها في "فايسبوك". الأمر لا يتعلق بالأمل نفسه كمبدأ، وربما كضرورة في تلك الأيام الحالكة، ولا بالخوف كغريزة بقاء في عهود الرعب. ما يغضب صديقتنا، وهي وليست وحدها، هو الأمل الركيك غير المسؤول، وكذا الخوف الذي لا يدفع أصحابه الثمن. فتلك التخمينات عن "صراع الأجنحة"، المؤسسة على لا شيء، والتي تَسابق البعض إلى الكتابة عنها بثقة مذهلة والحديث بشأنها في التلفزيونات وكأنها حقائق.. مَن يدفع اليوم ثمن تصديقها؟ هل استمع إليها أحد فنزل إلى الميادين، على أمل أن تنجده الأجهزة فاعتقلته؟ حوالى ألفين من المعتقلين حتى الآن، مئات من المختفين لا نعرف عنهم شيئاً، وحملة الفزع لم تتوقف بعد، ولعلها لم تبدأ.

مَن يتحمل وزر بث الأمل "الطفولي"، كما وصفه صديق آخر في منشور لا يقل غضباً؟ وفي المقابل، مَن يملك الحق في بخس عزيمة من نزلوا، أو صد الراغبين في النزول مرة أخرى بدعوى العقلانية؟ في لحظة يسودها الارتباك بالكامل، كل شيء خارج السيطرة، وبلا تنظيم سياسي ليقود الحراك، ولو بشكل رمزي، ومن دون حتى أقل المعلومات عما يجري بالفعل.. كيف يتصدى كتّاب كبار في الترويج لمحمد علي ولدعاوى ثورته المجهولة؟ لكن أيضاً مَن يمتلك رفاهية تجاهلها تماماً؟

للخائفين من بطش السلطة، عذرهم بالطبع، الآن وفي أي وقت آخر. هؤلاء الذين فضّلوا الصمت، أو حتى مارسوا نوعاً من التقية ليضمنوا سلامتهم وسلامة القريبين منهم. لكن الصمت ليس المعضلة اليوم، بل الكلام. فلم يحدث من قبل أن احتضن "الخارج"، مثل هذا العدد الكبير من المعارضين، من كتّاب وفنانين وأكاديميين وعاملين في الشأن السياسي وشخصيات عامة. في شاشات القنوات الفضائية وزوايا الرأي في الجرائد، أضحى معظم القادرين على نقد النظام من بين هؤلاء، أي معارضة المنفى، وفي الأغلب عبر وسائل إعلام مقارها في الخارج.

مع ظهور أول فيديوهات محمد علي، أضحى سؤال الخارج والداخل، مركزياً. لم تعرف المعارضة المصرية مثل هذا السؤال في الماضي، أو لعله كان سؤالاً يُطرح بشكل هامشي، يتعلق في معظم الأحيان بسبّ "أقباط المهجر"، لا أكثر ولا أقل. لكن اليوم، وفي ظل الحملة الواسعة والمفزعة من الاعتقالات وعمليات الخطف والاختفاء القسري، لم يعد الحد الأدنى من السلامة الجسدية لمَن في الداخل، مضموناً. تأتي رفاهية الكلام التي يملكها مَن في الخارج، بمسؤولية ثقيلة معها، وشعور جاهز بالذنب، يتجاوز مجرد "عقدة الناجي".  فمحمد علي نفسه، يطلق دعوته للثورة، من إسبانيا، ويعايره منتقدوه، سواء من مؤيدي النظام أو من معارضيه، بأنه لن يدفع الثمن الفادح والدموي لما قد يحدث. ولا تبتعد فيديوهات وائل غنيم الأخيرة، التي يبثها من الولايات المتحدة، ومحتواها المضطرب، عن هذا كله. يحذّر غنيم في البداية من دعوات الثورة، وعواقبها القاتلة، ويعرب عن ندمه على مشاركته في انطلاق ثورة يناير التي راح ضحيتها مئات الشهداء، ويعود بعدها ليطلب دوراً في ما يحدث الآن.

لا يتمتع مَن في الخارج بأمان كامل بالطبع. فمحمد علي يقول إنه مُطارد، وثمة أسباب معقولة لتصديقه. أما غنيم، فأجهزة الأمن اعتقلت شقيقه، وآخرون نعرفهم اعتُقل أقاربهم أو مُنعوا من السفر للضغط عليهم. لكن تلك التهديدات ليست المعضلة التي تواجههم، بل تلك القدرة على الكلام التي مازالوا يتمتعون فيها بأمان نسبي، ومن دون عواقب مباشرة عليهم. رفاهية بث الأمل أو بث الخوف، والحض على حراك نحو المجهول، لا أحد يعرف عدد ضحاياه المنتظرين، ولا أفقه ولا نتائجه، من دون أن يكون أصحاب البث هذا طرفاً في أي مخاطرة.

لذا، التزم الكثير ممّن في الخارج، بالصمت هذه الأيام، ولجأ البعض للسخرية، واكتفى البعض الآخر بتعليقات بين البَينين، من دون ترجيح رأي بعينه يمكن لاحقا أن تؤنبهم ضمائرهم على تبعاته. أما من تجرأوا على الكلام، فدافعوا عن أنفسهم بالقول بأنهم ليسوا في الخارج بإرادتهم، ويأتيهم الرد في أحيان كثيرة: ونحن لسنا في الداخل بإرادتنا. وفي وسط هذا كله يبدو الكلام عما يحدث في مصر غير ممكن في كل الأحوال، أو على الأقل يبدو مخاطرة فادحة وغير مضمونة العواقب.  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها