الإثنين 2019/09/23

آخر تحديث: 13:38 (بيروت)

شجرة البلادة

الإثنين 2019/09/23
شجرة البلادة
في رأيي أن وائل غنيم غاضب لأن فيديوهات محمد علي سحبت البساط من تحت قدميه
increase حجم الخط decrease
أصابتني البلادة. وإن كان ما يجري في مصر حالياً من تظاهرات محدودة ومتفرقة، على مدار اليومين الماضيين، بداية لثورة، فإنني وقبل أي شيء أعترف ـ مستعيرًا من عماد أبو صالح عنوان ديوانه - "كنت نائمًا حين قامت الثورة"، وهاتفتني أمي في منتصف ليل الجمعة الماضي، فاستيقظت، لأجيب سؤالها: "بالتأكيد لا مظاهرات"، وعدتُ هادئًا إلى الوسادة وكأن هاتفي لم يرن.


أصابتني البلادة، تحديدًا، منذ إعلان نتيجة انتخابات المجالس التشريعية في عهد المجلس العسكري، واكتساح "الإخوان" مقاعد مجلسَي الشعب والشورى. غرَسَت في داخلي بذرتها، وصرتُ، مع الأيام، أراقب نموها البطيء، وأتفرج على ما يجري من حولي، والنبتة التي تمد جذورها في بطني، تتفرع قوية إلى فمي وأذنيّ وتغشي أوراقها عينيّ.

أصابتني البلادة، لكن لم يصبني الجُبن، وإن كان ثمة أمر سيجري، الآن أو بعد حين، أو يؤول إلى العدم، فالأَولى أن أكون صادقًا. لا أكذب حين أؤكد أنني لست جبانًا، وأن الموافقة التي أبديها في عملي على تمرير بروباغندا النظام، ليست سوى لا مبالاة. حتى استقالتي من عملي كمحرر صحافي، والتي فكرتُ (لمدة زادت عن دقيقتين) في تقديمها، عدلت عنها لا مبالٍ. لا أقول ذلك لأبرر الأشياء لنفسي أو لغيري، فقط أبلغُ تلك البذرة بأنني أعرف ما مَدَّته عميقًا في داخلي، وإن كنتُ لا أشعر به، فلل ثقل في معدتي، لا توعك ولا أرق، وكأني أرعى الشجرة وقد صرتُها أو صارت هي نفسي، من دون أن ينزعج واحدنا من وجود الآخر.

أتنفس وشجرتي. تتركني لكي أعبّر عن استيائي من الوضع العام في أحاديث أجريها مع أهلي؛ أصدقائي؛ أو نص أكتبه، وأتركها تمنعني من الانخراط في أي تعليق يخص الشأن العام في الفضاء الافتراضي، لأنها تعتني بي أكثر من نفسي، وتعرف أنني لا أنتمي لهؤلاء مثلما لا أنتمي إلى النظام؛ لا أنتمي إلى ذلك الغباء الذي أراه يدافع عن الديكتاتورية كرهًا في الإسلاميين، كما لم يعد يثير الأمل عاطفتي. كنت أكره الإسلاميين بقدر كرهي للديكتاتورية، ولا أريد لأي منهما أن يعيش في حيز وجودي، لكنني صرت اليوم أعيش، بينما ألعن الديكتاتورية والإسلاميين، والمتنطعين، والانتهازيين، والكذابين باسم الثورة، والكذابين باسم الأمل، والظروف الاقتصادية، وحاجتي إلى المال، وابتعادي عن الكتابة من أجل لقمة العيش، من أجل الملاليم، أو ربما لا ألعنهم، فقط أحمل شجرتي بداخلي وأسير عبر الأيام.

غير أنني، ومنذ أيام، عندما بث وائل غنيم فيديو ظهر خلاله وقد حلق شعر جسده كاملًا حتى حاجبيه، والسوشيال ميديا تَبكيه، لأنه صار ـ بحسب ظنهم- مختلًا نفسيًا بعد التدهور الذي آل إليه الوضع في مصر، والنهاية الدرامية للثورة التي برز وجهه من خلالها للمرة الأولى؛ ضبطتُ نفسي أبحث عن ذلك الفيديو لأشاهده، وضبطتُني غاضبًا بشدة من محتواه، وغاضبًا ممّن يتأسون على حال غنيم، وضبطتُني أتصل بأحد أصدقائي لأعبّر له عن شعوري. كان الشريط فارغًا إلا من رغبة وائل غنيم المحمومة في الظهور، وغضبه الواضح من أن يسحب شخص مثل المقاول محمد علي، البساط من تحت قدميه وأقدام رفاقه أشباهه، بأقل مجهود. لكن صديقي صدمني بتعاطفه هو الآخر مع وائل غنيم، غير أنه، خلافاً للبكّائين، جعله الفيديو يرثي لحاله دون غنيم، لأن الصورة التي شاهد عليها الناشط السابق، أشعرته بأن كل ما ناضل هو من أجله لم يتحقق، وأن عمره مرّ من دون أن يدرك ذاته أو يؤمن مستقبل عائلته. لكنه بالرغم من ذلك، لم يفقد الأمل، بل بدا سعيدًا لأن ما يقوم به محمد علي هو الأول من نوعه في عهد السيسي، لأنه يهدم الصورة التي حاول النظام أن يكرسها عن نفسه بأن يده نظيفة، كل الناس كانت تعرف أنه نظام ديكتاتوري، وأن سياسات الإفقار التي كان يمارسها ضد الشعب متعمدة، لكن لم يتوافر الدليل على فساده المالي، وبعد فضيحَتي القصور والمقبرة، لم يعد ممكنًا له أن يدعي شيئًا عن نظافة يده، أو يدعو الناس مرة أخرى للتقشف، فضبطتُ نفسي مثل صديقي سعيدًا.

اندلعت المظاهرات وأنا نائم، لكنني استيقظت أبحث عن أخبارها في كل مكان، لم أستغرق وقتًا طويلًا لأعرف أنها قد جرت بالفعل، وذلك أسعدني. فصرت بين ساعة وأخرى، على مدار الأيام الماضية، أتحرى عناوين الأخبار الكاذبة التي يبثها النظام -والتي أعرف جيدًا كيف تتم صياغتها-  ليشوش على ما يجري، كي أتأكد أن شيئًا حقيقيًا يحدث، وإن كان صغيرًا، لا أخاف على ضياعه (وإن كنت أشعر بالجزع على مَن اعتُقلوا ضمن حملة عشوائية بدأت منذ مساء السبت). ولا يهمني أن يسفر هذا عن شيء في المستقبل، بقدر اهتمامي بالأثر الذي أحدثه في اللحظة الآنية. ربما لم يملأني الأمل بعد، فما زلتُ أحمل شجرتي وأسير بها، لكن الأفرع الواصلة من بطني إلى فمي وأذنيّ، اصفرّت أوراقها التي تغشي عينيّ.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها