الثلاثاء 2019/09/17

آخر تحديث: 15:33 (بيروت)

العمالة اللبنانية.. وجهة نظر

الثلاثاء 2019/09/17
العمالة اللبنانية.. وجهة نظر
منذ تأسيس "لبنان الكبير"، بدا أن الجاليات والسكان يزدرون مُسَلَّمات الحدود الوطنية
increase حجم الخط decrease
مع عودة العميل عامر (الياس) فاخوري إلى لبنان، وهو اللحدي (نسبة الى أنطوان لحد) والإتيان صقري (نسبة إلى إتيان صقر، رئيس تنظيم حراس الأرز المحكوم غيابياً، والمتأثر بسعيد عقل)، وما تبع هذه العودة من تداعيات ومواقف وتعليقات وعنصريات وتسريبات ونشر صور مع سياسيين وأمنيين، بدا بقوة ووقاحة أن العمالة في لبنان، بالنسبة إلى كثير من "السياديين" و"الممانعين"، هي "وجهة نظر"، مثلها مثل الاغتيال السياسي والسلاح غير الشرعي والفساد والبلطجة... وما حصل، هو صورة من صور لبنان المضمرة والمعلنة والحقيقية والتاريخية والفجّة. وتتكرر الصورة هذه، والكلام عنها، وعند كل مفترق، مرة في الدفاع عن العميل فايز كرم تحت مقولة "لن نتركه"، ومرة في الدفاع عن الارهابي ميشال سماحة، من دون أن ننسى زوابع الحديث عن التاريخ والعلاقات بين الطوائف والحرب الأهلية والمتاريس والخنادق. 

فمنذ ما قبل تأسيس "لبنان الكبير"(الذي يُحتفل راهناً بمئويته)، ومنذ بدء ترهل الحكم العثماني في لبنان، وبروز نظام المتصرفية قبل أكثر من 150 عاماً، تحول هذا البلد العجائبي الى بلد القناصل والجاليات المتواطئة مع الأغيار وفي حماهم، والتي ترفع المظلة في بيروت إن أمطرت في العاصمة التي تستتبعها، كأن هذا السلوك أصبح ثقافة عامة في هذا البلد الصغير.

منذ تأسيس "لبنان الكبير"، بدا أن الجاليات و"السكان" (بحسب تسمية فؤاد شهاب) يزدرون مُسَلَّمات الحدود الوطنية اللبنانية، بين "الأم الحنون" و"الأمة العربية" والآن "الأمة الإسلامية"، وربما في مراحل سابقة "الأممية الشيوعية". جزء كبير من الشخصيات التي تُعتبر مؤسِّسة في تاريخ لبنان، كانت فضيحة وغارقة في العمالة والخيانة، والعمالة في عرف بعض "الوطنجيين" تصير ثورة وتمرداً وبطولة.

العمالة وجه من وجوه هزالة الكيان اللبناني وسقمه. تنخرط الجماعات في ولاءات خارجية لا طائل لها، ولا تهتم بالنتائج، وربما تتوهم خلاصها في الولاء الخارجي. تمارس العمالة وتنفيها في الوقت نفسه، أو تحاول تغطيتها بمزيد من النفاق والهوبرة والادعاء. أبرز هذه الدروس البائسة، أحداث 1958. أراد الرئيس كميل شمعون الاستئثار بالسلطة، فجمح في الولاءات الخارجية، وغرق المسلمون في بحر عواطف الناصرية والأمة العربية الواحدة، والتحق المهيمنون على الشارع المسيحي بحلف بغداد، وانقسم البلد بين ولاءات وويلات وعمالات، وبات هناك من ينفذ القتل والاغتيال في لبنان لإرضاء الاستتباع، واحترق لبنان. وبعدها، كانت دروس "اتفاق القاهرة" العام 1969. جزء كبير من المسلمين مال نحو "العروبة" (وهي عروبيات متناقضة ومستعرة)، وجزء كبير من المسيحيين فتح قنوات مع الإسرائيليين (بزعم التحالف مع الشيطان من أجل لبنانهم)، وبين هذا وذلك استبيحت الدولة، والسيادة الوطنية المستباحة أصلاً. تحول لبنان ساحة لحروب الأغيار، ليبية وعراقية وسورية وفلسطينية ومصرية وسوفياتية وإسرائيلية وأميركية وفرنسية، ولاحقاً إيرانية. آلاف القتلى والجرحى باسم "حب الوطن"، من جماعات كانت مرهونة للخارج.

كان الاجتياح الاسرائيلي للبنان ذروة البؤس وذروة تصدع الدولة. توهم بعض المسيحيين أنهم إذا تعاونوا مع إسرائيل وتخلصوا من الوجود الفلسطيني و"اليسار الدولي"، سيبنون دولة قوية ومجيدة وخلاصية. وتوهم بعض المسلمين والجنبلاطيين أنهم اذ تعاونوا مع المقاتلين الفلسطينيين سيحدثون إصلاحاً في نظام الحكم اللبناني، وكانت النتيجة الوصول الى التهلكة والمزيد من الحرائق.

صُور زعماء لبنانيين مع اسرائيليين، ليست مجرد تفصيل، ولا تُحذف من الذاكرة بالنفاق السياسي وكليشيهات السيادة والعصبية و"أوراق التفاهم"، ولا ينبغي فصلها أيضاً عن الصراع على تاريخ لبنان وحاضره ودولته، بين قبائل تزعم كل منها أنها على حق. هناك مَن استضاف شارون في منزله، ويعتبر نفسه سيادياً. وهناك مَن يقول إنه جندي في جيش ولاية الفقيه، ويطالب الآخرين بإجراء الفحوص في المختبرات الوطنية. وهناك مَن صافح الإسرائيليين عن سابق تصور وتصميم، ويعطينا الآن دروساً في الصراع العربي الاسرائيلي. فظاعات العمالة لإسرائيل لا يحذفها الزمن، وكذلك فظاعات النظام السوري في لبنان لا تحذفها شعارات "الأخوة" و"وحدة المصير والمسار"، وجحيم اللبنانيين بين بعضهم البعض لا تزيله العنتريات السياسية ولا المصالحات الشكلية. التحاق قسم كبير من اللبنانيين بالمشروع الأسدي السوري ليس تفصيلاً، وزكذلك التحاق جزء آخر بالمشروع الإيراني. لكن القوي غالباً ما يكتب التاريخ ويفرض الواقع لمرحلة من المراحل.

هكذا نجد أن كثيرين، كل من منطلقه، تعاطوا مع العمالة كوجهة نظر. هناك عمالة براغماتية، وهناك عمالة جغرافية، وهناك عمالة إيديولوجية. خسرت العمالة البراغماتية (بشير الجميل تحديداً) أمام الآخرين، اغتيل تنينها، وارتكب أنصاره مجزرة صبرا وشاتيلا، فصارت سهلة محاسبته وغض النظر عن التنين الآخر، خوفاً أو توجساً أو تواطؤاً... وأمام أي نكزة صغيرة نشعر أن البلد مستنقع من العملاء. في منطق "حزب الله"، التحالفات السياسية تبيح المحظورات. فهو، الذي كان يدلف علينا في الصباح وفي المساء دروساً في المقاومة والممانعة، يقرّ في ورقة تفاهمه المار مخايلي "المجيد"، مع التيار العوني، بنداً يتحدث عن عودة اللحديين الفارين الى إسرائيل، يسقط الخطوط الحُمر تبعاً لحاجياته وانتهازيته، ويتحدث جبران باسيل عن ورقة التفاهم وكأنها دستور وطني.

وفي خضم فضيحة عامر فاخوري، صمت "حزب الله" كما صمت في قضايا سابقة، ولم تفلح كرنفالات اهداء جبران باسيل فراغة قذيفة مدفعية، وتسميته "وزيراً مقاوماً"، في منع الجمهور المتأذي" من العملاء من التصعيد. لم تفلح السنوات العجاف في الود وزواج المتعة بين العونيين والخمينيين في إزاحة ماضي العمالة الثقيل. نكزة صغيرة اعادت كل فريق إلى متراسه، وشممنا رائحة لحدية من تعليقات بعض الباسيليين في سجالهم الكوني مع سهى بشارة.
بلد غارق في العمالة وصناعتها، لا ينقذه "الكيتش النضالي" ولا الرومانسية الثورية الساذجة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها