وتبدأ الصورة تتضح لنا بسرعة، ونعرف ماذا حدث، وقاد إلى هذا الوضع. وكيف سقط اللص المراهق في فخ العجوز وانتهى به المقام إلى الحمام، إذ تقول: إن لم تكن استوعبت المسألة بعد – وهذه الجملة تبدو كأنها موجهة للقارئ أيضا – فدعني أخبرك أنك أنت من أوقفني في الشارع في اللحظة نفسها التي كنت أخرج فيها المفتاح من محفظتي السوداء لفتح باب المبنى، وقلت لي، معتمدا على سكين أو مُدية أو شيء لا أعرفه- شيء حاد كان يُخزني في ظهري، أن أصمت وألا استدير، وأن أفتح الباب كأن شيئا لم يكن، وأن أرافقك حتى شقتي ببطء وصمت تام.
وتضيف العجوز موجهة حديثها إلى اللص المحبوس أو إلى القارئ: إذا كنت قد اضطررت إلى خداعك وإخبارك بأنني أحتفظ بكل أموالي في خزانة الحمام الصغير الملتصق بالمطبخ، الحمام الذي تقبع بداخله لتصرخ كإنسان الغاب، فهذا بكل بساطة لأنني رفضت التخلي لك عما لدي من مال.
وهكذا تطرح عليه الحكايات، حكاية أمها ديليتا، التي كانت تحب الطيران، فتعرفت على طيار، كان بوسعه أن يعلمها الطيران، لكنه رغب فيها، وحاول مراودتها عن نفسها، فذهبت معه إلى المطار على وعد زائف منه أن يدربها على الطيران، ولكنه كان يضمر شيئا آخر، وهي أيضا كانت تضمر له شيئا آخر، إذ استلت مسدسا، وهددته بالقتل إن لم يعرفها كيف تقلع بالطائرة، ثم أطلقت عليه رصاصتين فعلا، وأقلعت بالطائرة، ثم سقطت بها الطائرة وصُرعت.
ولكن هذه ليست هي الحكاية الوحيدة التي تسير عليها الرواية، إذ كما هو في الليالي، حتى حكاية السندباد البحري وسفراته تتفرع داخل الليالي الألف، فلا ننتهي من حكاية ديليتا، حتى ندخل إلى حكايات الرجال الذين غرروا بالعجوز الحكاءة التي تحبس المراهق، فتحكي له عن نفسها، عن الرجل الذي اغتصبها عنوة وهي طفلة صغيرة، وظل يغتصبها مرارا وتكرارا، ثم تحكي له عن الرجل الذي خدعها بقصة حب زائفة، ثم سرق مجوهراتها واختفى، وفي المنتصف نعرف منها ماذا يجري بينها وبين اللص المحبوس، فالعلاقة تتطور بينهما من الرغبة في عقابه وإثارته بدفعه للنوم على الأرض بعد أن يفترش الفوط والمناشف، والتهام الاسفنج ومعجون الأسنان، والتبول كما يشاء في المرحاض، هكذا نستمتع بقصة محبوكة، فإذا حبس أحدهم لصا في غرفة النوم، أو في غرفة مكتب. ستبرز مشكلة تغوطه، وتلويثه لنفسه وللمكان المحبوس فيه، لكن جانمير راعى كل الإشكاليات التي، قد تمثل ثغرات في معمار تلك النوفيلا القصيرة، فمن أسفل عقب الباب تبدأ العجوز بتمرير الطعام وقطع البسكوت إلى اللص الذي نعرف أن اسمه "سانتياغو" ونعرف أن ثمة تعاطفا يبدأ ينمو بينهما، إذ تقول العجوز: أعجبتني كثيرا مسألة أن أذهب للنوم وأنا أعرف أن أحدا سينتظرني عند استيقاظي، هو إحساس جميل، لكن بمجرد أن فتحت عيني أدركت أن كلا منا يعرف الآخر منذ فترة ليست بالقصيرة.
وقد يعترض البعض على التأويل الذي طرحته بأن ذلك الشكل الذي جعله جانمير في روايته لا يتأثر بالليالي العربية، إنما يتأثر بكرسي الاعتراف في الكنائس، إذ يقبع شخص ما في الظل يحكي الحكايات معترفا بأخطائه لقس غير ظاهر ولا يتدخل في الحكي ويكتفي بالاستماع، وهو ما يلفت إليه جانمير فعلا في إحدى الصفحات حينما يقول على لسان العجوز: لا أعرف ما الذي يحدث لي معك يا سانتي: أقسم لك كنت أظن دوما أنه ليس من المستحب أن أقص على شخص آخر شيئا يهمني أنا وحدي، إذا أمعنت النظر فإن عدم رؤيتي لوجهك وأنا أحكي يجعل المسألة تبدو كاعتراف في الكنيسة.
ولكن شهرزاد كانت تحكي لشهريار لدفعه بعيدا عن البطش بها، وإلهائه عن فكرة الاستيقاظ في الصباح التالي وذبحها كأخريات ذبحهن وانتهى منهن، وكذلك العجوز هنا تحكي لسانتي تخوفا منه، لأنه بمجرد أن يغادر الحمام، قد يقتلها، وهي الفكرة التي تظل مطروحة دائما بينهما، وتظل تعارض فكرة إطلاقه، ونسمع منها توسله لها ووعوده بألا يمسها بسوء، وهي الوعود التي لا تصدقها أبدا، وهكذا تصبح العلاقة بين العجوز وسانتياغو، مثل العلاقة بين شهرزاد وشهريار، واحدة تحكي لكف أذى الرجل.
لن يغادر سانتياغو هذا الحمام مطلقا، وهكذا يظل القارئ متتبعا بشغف لمعرفة ما سيحدث في النهاية، فالمعضلة التي صنعها جانمير، لا يبدو مهتما بحلها والاهتمام بترتيب مخرج للص المراهق في نهايتها، لا يبدو جانمير مهتما إلا بنواة الرواية نفسها، ألا وهي فكرة أن كلا منا بحاجة لمن يسمعه، إذ تقول العجوز: كنت أخبرك قبل شرح مسألة الاعتراف، أنه معك يحدث لي شيء لم يسبق أن مررت به، أنني أتجرأ وأقص عليك خصوصيات لم أحكها لأحد من قبل، هذا أمر لا يصدق، أنا بالكاد أعرفك يا سانتي، وبت تعرف كل شيء عني، لا يمكنني التوقف. أشعر أنني بت مسموعة ولي اعتبار.
*صدرت الترجمة عن دار مسعى للنشر والتوزيع
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها