الجمعة 2019/08/09

آخر تحديث: 01:02 (بيروت)

مستقبَلات الحب

الجمعة 2019/08/09
increase حجم الخط decrease
ما هي مُستقبلات الحب، التي يحملها المعرض في "ماغازين جينيرو" في باريس، عنواناً له؟(*) من الممكن الاجابة على هذا الاستفهام بالاشارة إلى الجو الذي طغى على كل الأعمال الفنية التي تتحدث عنها: جو كامد، مغتم، لكنه، فعلياً، يبعث على الغبطة. 

فما تقوله هذه الأعمال عن تلك المستقبلات أن عنوانها، معناه واحد، وهو موت الحب، تلاشي جثته، تبدده، ليصير أينما كان، وبالتالي، لا يكون البتة، بل إنه، وهنا النبأ السار، يتبدل، متفلتاً من ذلك الدور المنصرم، الذي حُشر فيه، وقضي عليه داخله، بحيث انه غالباً ما كان، وبعد حدوثه، يصير سبيلاً إلى علاقة إنتاج لحيز اجتماع-اقتصادي، وهذا، إلى أن طغت عليه، وغدا رديفها بالكامل.

لموت الحب، أشكال عديدة، تفيد بانتهاء خرافاته المؤسسة. المصادفة مثلاً، التي كانت قصص الحب تمتلئ بها، لتجعله مدارها، ما عادت تشتغل فيها، بحيث انه اليوم مُحَوسب. فالفنانة الروسية نتاليا ألفوتوفا، وفي البرنامج الذي ركبته، واستوحته من تطبيقات المواعدة، تبحث في التلاقي على أساس "حسبة خورازمية" دقيقة، وهذه الحسبة تحل مكان المصادفة، التي كانت السيطرة على قانونها بعيدة المنال. على أن إعمال الحوسبة في الحب، يقدمه فيديو الفرنكو-جزائري نييل بلوفا، الذي يصور فيه مجموعة من المراهقين يرقصون، ويشربون الكحول، ويضحكون، أو يزاولون الاحتفال على عمومه، وفي أثناء ذلك، يتعرضون لدراسة علمية لعلامات الإنجذاب بينهم، ولمنسوب الهرمونات في أجسادهم، وهذا، من أجل إحصاء احتمالات التلاقي الحبي بينهم، وحسابها بالأرقام. ونتيجة ذلك، يصير الحب موضوعاً للعلوم، ولـ"سيانس دوور" على وجه التحديد. فما كان مجهولاً، وسؤاله المعتاد "كيف التقيت بحبيبي؟"، أو "ماذا يحصل لي؟" بعد الوقوع بالحب، صار معلوماً، ومُشرّحاً، وهذا يفقده سحره.



لكن، وفي حين تشريحه، وإعمال التشريح دليل على جثثيته، تفلت منه هيئته، لتدوم في عالم الافتراض، حيث تقترب من كونها أثره الأخير. الفنان الصيني ياننغ مانغ، يبدي هذه الهيئة جيداً، بحيث أنها وجهان بأبعاد ثلاثة، وجهان متقابلان، يوحيان بأنهما في وشك تبادل القبلات، لكنهما لا يقدمان على ذلك، بل يبقيان في مكانيهما. الحب، في حالتهما، موجود في هذه الهيئة التي تنطوي على نفيها، وهي تتضح أكثر في عمل البريطاني أد فورنيلز، الذي يجعل هذه الهيئة متحركة بفعل نظارات الافتراض الواقعي، التي تتيح لمرتديها أن يلتقي بأغيار كثيرين، وأن يقع في حب من يختار منهم.

يصح الاعتقاد ان القسم الذي خصصه المعرض لمعالجة "الحب في زمن الافتراض"، كان يحتاج إلى بعض التوسيع، على عكس قسم اخر، تناول فيه ذلك الحب في زمن تعدّي الإنسانية، الـ"ترانس أومانيسم". ففيه، على سبيل المثال لا الحصر، عمل لكيفين بلاندرمان، الذي حاول أن يبني مجسمات آلية تعمل بحسب حرارة مكانها، وهي حرارة قريبة من الحرارة الجسمية خلال الحب. بالاضافة الى عمل الايرلندي ماريت فسترهويز، الذي اختصر الأجساد المتحابة في يديها، وربطها ببرنامج حاسوبي لا يجعلها تلتقي سوى لتنقر على بعضها البعض كأنها الواح إلكترونية، وعندها، تكتب في الشاشة قصيدة عن البُعد والفُرقة.

إلا أن كل هذه السوداوية لا تعني أن الحب لن يولد مرة أخرى. فهو، إن ظهر كهيئة فقط، فمنها قد يعاود البدء، ليكون في مطلعه، مجرد علامات مشتتة، تحتاج ربما إلى تماس، وربما لا تحتاج. فكل قدرة الحب في أنه على هذا الوضع. هذا ما يدل عليه عمل الفرنسية أنج ليشيا، التي تضع جهازي عرض في إزاء بعضهما البعض، وبينهما، يشتد الضوء، وتعلو الحرارة، التي تشكل خلاصة كل تاريخ سرده السينمائي، مثل ما يدل عليه عمل الايرلندي نيك والفرنسية كلوي، اللذين يحاولان، وبالرقص، إعادة تأسيس الحب كمكان لتباطؤ الأجساد. وفي هذا، يشاركهما ألكسا كارولينسكي وانجو نيرمان(ألمانيا)، اللذان يسعيان في فيلمهما إلى الهدف نفسه، لكن بجعل الحب مشروعاً أممياً، وبالاستناد إلى البحث في مشاريع سابقة نظرت فيه، قبل أن تتبدد، أو تُترك.

في الواقع، ظلت الولادة الأخرى للحب، في تلك الأعمال وغيرها، مسعىً متعثراً، أو ظلت تحضيراً له. لكن المهم، انها ما عادت تتجنب موته، فتغرق في حزنها عليه، على خرافاته. ومن ناحية ثانية، يبدأ الانصراف من هذا الحزن، والتفتيش عن إعادة خلقه، أو طيّ فصل من تاريخه، وفتح فصل جديد فيه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها