بالنسبة إليّ ﻻ أعتقد أن في "بيت الحرير" ابتذال جنسي وﻻ تحرر تام، وكل هذه الأنواع من العلاقات موجودة من قبل الثورة. لذلك لا أشعر أنني أؤكد على اتهامات، لكني أناقش أوضاعاً كانت موجود وجاءت الثورة فوضعتها على السطح بكل ما تحمله الثورة من حد أقصى وتناقض، كونها تدفع لأقصى درجات النفس وأيضاً تكشف عن قاع هذه الذات. فالثورة ليست طريقاً في اتجاه واحد، لكن في اتجاهين على ما يقول فالتر بنيامين. ويمكن أن تقدس الرواية الثورة من خلال مواقف أبطالها، وأيضاً يمكن أﻻ تقدسها تبعاً لتحوﻻت هؤلاء الأبطال وتناقضاتهم الطبيعية أو المتطرفة. فالثورة ليست لحظة بيضاء أو درجة الصفر في الحياة، بل هي مبنية على ماضٍ يشكل تحوﻻتها وتناقضاتها.
أعتقد أنه لا وجهة نظر واحدة، هناك أكثر من وجهة نظر، بينها صراع أو رغبة في التصفية. الحالة الإنسانية للأبطال ربما تحمل صورة ما لتعدد وجوه الثورة.
الكلام عن الثورة يتم من خلال أبطالها، وليس الراوي. بالتأكيد ثمة علاقة بينهم، لكن مستوى التشابك يحمل أكثر من تفسير. وأيضاً النهاية، أتصور أنها ﻻ تحمل رأياً حاسماً، لكن فيه إمكانية تأويل مفتوحة للبطلة.
بالنسبة إليّ هذه الرواية تضاف أو هي جزء ثانٍ من "هاينريش بل"، وليست نقيضاً لها.. في مساحة أخرى مكشوفة داخل الثورة، وليست رصداً لها مثل بيت هاينريش بل.. وبأصوات متعددة أيضاً.. رغبة التعدد في الصوت، ربما تحمل رغبة من الراوي في تضمين الرواية مستويات عديدة من تأويل الحدث وأيضاً تحمل شكلاً روائياً مختلفاً.
حتى الآن لم أواجه بفكرة خدش الصورة النمطية للثورة وأتمنى أﻻ يكون التلقي من هذا الباب كونه سيغلق الباب للحوار، لأنه رأي سياسي، أكثر منه إنساني أو فني. وشيء آخر، ﻻ توجد صورة نمطية للثورة، أي ثورة تحمل صوراً عديدة في حالة حراك وتناقض وصراع. أتصور هذا لأنها أكبر من أبطالها أو هي ﻻوعي جمعي لأبطالها.
أحمد عوني: نقد يناير فعل ثوري
تخيل معي هذا المشهد الفج، أنك رأيت طفلاً يغرق في النيل. بديهياً ستسعى لإنقاذه، لكن تخيل أن رجلاً أوقفك، ربما لأنه يخشي أن يتورط في هذا المشهد فيغرق هو الآخر، وقال لك: "لكن، هل تمارس الجنس من دون زواج".. هل ستتوقف للإجابة على هذا السؤال؟ وكيف تضمن أنك إن نفيته لن يسألك "لكن، هل لك صديق يتعاطي المخدرات؟". من العبثي أن تدخل معه في هذه الدائرة المفرغة من الأسئلة التي لن تؤدي إلى شيء سوى أنكما ستتجاهلان أن هناك طفلاً يغرق أمامكما الآن. بالتأكيد، سعيت في الرواية لتأكيد هذه الاتهامات، ليس بغرض الوصم، لكن من أجل كشف عبثيتها وتعطيلها للمشهد الأساسي الذي هو ببساطة أن "يناير" كانت مشروعاً لإنقاذ هذه البلد، كانت فِعلاً من أجل المستقبل.
وبخصوص هذا المشروع، فأنا أرى أيضاً أنه لا مستقبل من دون نقد لحظة يناير ومحاسبتها وأحياناً ازدرائها. في تقديري هذا فعل ثوري. بالتأكيد أقرب للثورة من تقديس لحظة معينة والسعي وراء استعادتها، بشكلها نفسه أو البكاء على أطلالها. أي مشروع نوستالجي هو مشروع رجعي لا يخص المستقبل، وإلا فما الفرق بين الثورة وبين مهاويس استعادة أمجاد الأندلس؟ بالتأكيد سعيت لخدش هذه الصورة المثالية عن يناير، لكن لصالح صورة أكثر واقعية وأكثر إنسانية، أساساً تجاه تجربتي والتجارب الفردية في هذا المشهد العام. كتبت عن شهيد لأني كنت أرى كيف ننزع عن الشهداء إنسانيتهم بصبغهم بالملائكية، وكتبت عن بطل مزيف لأني عرفت كم وضعتنا الثورة في مأزق غير إنساني، إما أن نكون أبطالاً أو جبناء. وكتبت عن دوافعنا الفردية والأنانية جداً لأني لا أرى كيف تتناقض مع صدق انتمائنا لمشاريع إنسانية كبرى. لا أتخيل أننا نخلع أنفسنا وننضم لحدث طاهر جماعي، بل نحن نخلق هذا الحدث بتناقضاتنا الإنسانية، فربما كانت هذه دعوة للتصالح مع هذه الدوافع التي أرى استحالة في تجاهلها.
هذا ما سعيت له، الكتابة عن تجربتنا كأفراد وليس توثيق الحدث الكبير، اللعب مع فكرة الأيقونة وعبء اللحظات العامة الكبرى التي تجبرنا على طرح أسئلة داخلية جداً عن أنفسنا. كان رعبي الأساس من التلقي هو ألا تُقرأ كمحاولة للكشف وطرح الأسئلة، وتُقرأ كرواية فضائحية معادية للثورة، وهو ما لم يحدث حتى الآن. كان هناك قلق آخر، تصنيفها باعتبارها رواية سياسية "عن الثورة" لأني أردت استخدام الثورة كوسيلة لطرح أسئلة أراها أهم عن أنفسنا، أسئلة كنت أراها صالحة للجدل بعيداً من الثورة نفسها، لكن بالتأكيد حدث هذا التصنيف الذي يزعجني أحياناً لأني أضطر للحديث عن الثورة وليس عن الرواية كعمل فني. لكن، ماذا كنت أتمنى من تلقي هذه الرواية؟ أن يقرأها أحد ما وتحفزه أن يسأل أسئلة شخصية تخصه بسببها، أن يخدش هو بنفسه الصورة النمطية المثالية ويعيد تركيبها بطريقته، لا أعرف حتى الآن إن كانت أمنيتي هذه قد تحققت بشكل كافي، لكني أتمنى!
حاتم حافظ: مَن قدّموا مراجعات هم أكثر إخلاصاً ممّن قدّموا القرابين
من الطبيعي أن تكون سنوات الثورة مشحونة بالعاطفية. الثورة فعل عاطفي بالأساس، خصوصاً حين يكون فعلاً جماهيرياً لأن العقل الجمعي عقل غير منضبط وغير عقلاني وانفعالي. الخطأ التاريخي لثورة يناير في رأيي أنها كانت ثورة بلا عقل ولا فلسفة. الثورات الكبرى، مثل الثورة الفرنسية مثلاً، سبقها سياق ثقافي عقلاني وفلسفي مهّد لها، ورسم لها خططها ورؤاها، وغياب هذا السياق هو ما تسبب في الانقسامات الحادة التي التهمت الثورة في ما بعد.
في يناير، شارك الملايين بهدف إسقاط نظام مبارك، لكن تصوُّر ما بعد إسقاط مبارك لم يكن تصوراً موحداً. كل من شارك في الثورة كانت لديه خطته وتصوراته ورؤيته الخاصة، ولما انخلع مبارك اكتشف كل طرف أن عليه إزاحة الآخرين. تسببت الثورة في فراغ سياسي كبير، ولم يكن لدى أي طرف سياسي - باستثناء جماعة الإخوان الإرهابية - أي قدرة على شغله، وحين اكتشف المصريون أن مخططات الجماعة تتعارض مع ثوابت المصريين القومية قرروا إزاحتهم من دون أن يكون أي طرف آخر لديه القدرة ولا الرؤية الكافية لشغل هذا الفراغ.
هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية، للثورة خطيئة كبرى - في ظني - وهي عدم رغبتها في تصحيح نفسها، وفي رفضها قبول الاختلاف معها. العقلاء في الثورة كان من المفترض أن يصوبوا مساراتها باستيعاب مخالفيها وتفهم أسبابهم ومخاوفهم، لكن للأسف الثوار اختاروا أن يكونوا جماعة تطهرية فتحولوا إلى غيتو أو جماعة مختارة. الثوار كان يجب أن يستوعبوا أن الثورة نفسها اختيار مصلحة (بالمعنى السياسي) وليست اختياراً لقيم مطلقة. بمعنى أن نجاح الثورة كان مرهوناً بقدرة الثائرين على إقناع القوى المحايدة التي فوجئت بالثورة، بأن مصلحتها مع الثورة. لكن ما حدث هو اتهام هذه القوى بأنهم "حزب كنبة" وبأنهم "سلبيون"، ومن الطبيعي حين يجد المرء نفسه متهماً، أن يبادل متهميه الكراهية. القوى المحايدة أو القوى الحرجة كانت الرصيد الذي أهدره الثوار وتمكن "الإخوان" من مغازلته. خذ مثلاً لحظة استفتاء 19 مارس التي كانت أول حدث سياسي عقب الثورة كلحظة كاشفة. كما اتهمت مجموعة الإسلاميين، رافضي تعديل الدستور في دينهم، اتهم بعض الثوريين الموافقين على تعديل الدستور في أخلاقهم! أنا شخصياً كتبت وقتها مقالاً عنوانه "كن مع الثورة وقل لا لتعديل الدستور" بدوافع عاطفية طبعاً، فاتصل بي أصدقاء كثر من خارج الدوائر السياسية، لكنهم كانوا من المشاركين في الثورة وغضبوا لأني في عنوان مقالي أزحت المختلفين معي على اختيار سياسي من دائرة الفعل الثوري! ففهمت وقتها أن الثورة عليها أن تتوقف كفعل عاطفي وأن تبدأ كفعل سياسي أي كفعل عقلاني نسبي، وأن تبدأ مرحلة اكتشاف الأصدقاء بدلاً من الاستمرار في تحديد الأعداء، أن تتخلى عن تمييز نفسها وأن تندمج مع المحيط الاجتماعي.
على المستوى الأدبي والفني أعتقد أن استعادة العقلانية للنظر للثورة كفعل قابل للتقييم والمراجعة مهم جداً. وأن الأشخاص الذين قدموا مراجعات للثورة هم الأكثر إخلاصاً والأكثر فائدة للثورة من الذين قدسوها وقدموا القرابين لها. مراجعة أخطاء الثورة هو الفعل الأهم الآن، خصوصاً وقد مرت سنوات، وهدأت الانفعالات، واستعاد الأشخاص وجودهم كأفراد وليس كأعضاء في جسد الجماعة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها