الثلاثاء 2019/08/27

آخر تحديث: 12:49 (بيروت)

حين يتسلل الزعيم إلى الأيقونة.. من شمعون الى عون

الثلاثاء 2019/08/27
حين يتسلل الزعيم إلى الأيقونة.. من شمعون الى عون
سيدة التلة بين الامس واليوم
increase حجم الخط decrease
في ختام الذبيحة الالهية التي اقيمت في كنيسة سيدة التلة في دير القمر، أهدى الكاهن، رئيس الجمهورية ميشال عون، أيقونة للعذراء وقد ظهر فيها عون تحتضنه السيدة، وتداولها اللبنانيون بكثرة في مواقع التواصل الاجتماعي. انتقد بعضهم هذه المشهدية المفرطة في تقديس الأشخاص، بينما اعتبره آخرون تقليداً، فسبق أن قُدمت صورة مماثلة الى الرئيس كميل شمعون عندما حضر قداساً في كنيسة دير القمر نفسها، وجَعَلَ عيدها مُناسبة وطنيّة يجتمع فيها أركان الدولة، وقال شمعون في مُذكَّراته إنَّهُ كان يحمل دوماً على صدرِهِ "أيقونة العجائِبيَّة سيدة التلّة وقد أنقذتهُ من مُحاولات اغتِيال عِديدة".

في المشهدية بين الأمس واليوم، شيء من مزج السياسة بالأيقنة، انتبه المؤرخ الفرنسي دومينيك شوفالييه مبكراً للأيقنة الشمعونية المفرطة في لبنان، فكتب العام 1961 دراسة بعنوان "السياسة والدين في الشرق الأوسط: دراسة للأيقونات الدينية للموارنة في لبنان"، نشرها في كتاب "حبر الشرق/ بين الحروب وصراع السلطة"(*)، وهو ينطلق في دراسته من صورة الرئيس المصري جمال عبد الناصر التي كانت تعدّ في تلك المرحلة "رمزاً للوحدة العربية"، متطرقاً إلى حساسية الصور ودلالتها التي تؤثر في منطقة جعلت "الحركات أو الأحزاب السياسية التحديثية الصورة الشخصية عنصراً مهماً في علاقاتهم الوجدانية مع الجماهير (أو الجمهور)".

تقوم السياسة في الشرق الأوسط بدرجة بارزة جداً على الأشخاص. فالأحزاب، وكذلك الميليشيات، تشكل، بحسب المفهوم الغربي، نوعاً من "الأيقنة المفرطة" (الباحث تيدور هانف)، اذ إن ملامح السلطة والزعامة تبرز غبر الصور والرسوم العديدة للزعماء أكثر ممّا تبرز عبر البيارق أو الأزياء الموحّدة. الولاء السياسي هو ولاء لأشخاص بدرجة أولى أو للمنظمات أو البرامج بدرجة ثانية، وهذا جعل صاحب كتاب "مجتمع جبل لبنان في عصر الثورة الصناعية الأوروبية"(دار النهار) يقرأ الحياة العامة للسياسة اللبنانية من خلال صور شمعون التي تخاطب وجدان الموارنة. فالصورة الأولى، الأشهر والأكثر انتشاراً بين الناس من أيلول/سبتمبر 1953 إلى أيلول/سبتمبر 1958، هي الصورة التي تم تداولها بمناسبة دينية مارونية مع احتفال بحدث سياسي، كما يشي بذلك ما كتب على تلك الصورة من تعليق: "سيدة التلة شفيعة دير القمر تحضن ابنها البار كميل نمر شمعون رئيس الجمهورية اللبنانية، مقدمة من أرنست أفرام البستاني في 9 -3- 1953... وكان شمعون، قد ألقى خطاباً في آب/أغسطس 1952 في مسقط رأسه في دير القمر، البلدة المشهورة في جبل لبنان، بمناسبة الاحتفال بسيدة التلة في يوم الأحد الأول من ذلك الشهر. وفي ذلك الخطاب، التزم شمعون بالقيام بحركة معارضة لسياسة رئيس الجمهورية الاستقلالي بشارة الخوري، الذي كان يسعى إلى تمديد ولايته المشرفة على نهايتها على الرغم من تعارض ذلك مع نصوص الدستور. بعد أسبوع من هذا الخطاب، نظم شمعون في دير القمر لقاءً آخر، جرى أمام ساحة كنيسة السيدة البتول. والربط بين الرئيس وسيدة التلة التي تحظى باحترام شعبي واسع وباجتماع سياسي، يعني ضمان الحصول على قاعدة طائفية واسعة ضرورية لأي عمل سياسي في لبنان.

وأقيم قداس حبري في دير القمر، في إحدى الكنائس، في حضور شمعون في 9 آب/اغسطس 1953، تلاه حفل خطابي ذكر فيه رئيس الجمهورية بالاجتماع التاريخي في سيدة التلة وفي مؤتمر دير القمر في العام 1952. وبمناسبة إحياء الذكرى السنوية الأولى على هاتين المناسبتين، الدينية والسياسية، طُبعت هذه الصورة الأولى. وواهب هذه الصورة ينتمي إلى عائلة من العائلات المعروفة في دير القمر، معروفة أيضاً بمثقفيها الذين برزوا في الأدب وكذلك بتطرفها لـ"اللبنانوية"، وبـ"إخلاصها" لسياسة شمعون طوال حكمه. "هذا العمل الورع والسياسي في آن واحد يظهر الدور الذي تؤديه عائلة متنفذة في إطار البنى التقليدية والتجمع السياسي – الطائفي للموالين في لبنان.. هذا الفعل ينزع إلى تحديد وجهة سلطة شمعون بتأكيده على قاعدته الطائفية، كما أنه من خلال هذه النقطة الأخيرة يمنح شعبية"، كتب شوفالييه.

والتُقطت هذه الصورة الشمسية عند مصور يدوي ماروني في بيروت، فكانت تعلق في مكان بارز، في إطار ذهني ضمن صور أخرى دينية يزين بها عادة السكان المسيحيون البسطاء بيوتهم. يقول شوفالييه: "شاهدتُ هذه الصورة نفسها لدى مطبعة في بيروت، وقد وضعها العمال بالقرب من أجهزة عملهم، والحال نفسه ينطبق كذلك على فلاحي المتن الموارنة، وحتى سائقي سيارات الأجرة يضعونها داخل سياراتهم بين صور دينية أخرى. لقد انتشرت هذه الصورة في الأوساط الشعبية المارونية في الجبل وفي بيروت التي حافظ سكانها على علاقات قوية مع أهاليهم الذين بقوا في قراهم". بحسب تفسير شوفالييه، هي ليست صورة عادية لحملة انتخابية تعلق في أي مكان، بل هي صورة تمثل السيدة العذراء، إنها أيقونة مقدّسة يحجز لها مكان يليق بها وما تثيره في نفوس المؤمنين. إذن فقد تحدد الهدف السياسي عبر هذه العلاقة الروحانية والرمزية.

كان سعي شمعون لوضع نفسه تحت وصاية سيد القمر، موفقاً: فهذه الدعاية السياسية ذات الصبغة الدينية لا يمكنها إلا أن تمس قلب الشعب الماروني الذي يصر على تقاليد السيدة العذراء الدينية التي يتعلق بها كثيراً. فسيدة التلة تمثل أحد العناصر الأكثر أهمية بالنسبة اليه، سواء في ما يتعلق بنفوذها الديني، أو ما يتعلق بالذكريات التاريخية التي تستدعيها.

ويعود بناء أول كنيسة أهديت لسيدة التلة في دير القمر، إلى القرن السادس عشر الميلادي، في بداية استقرار الموارنة في هذه المنطقة التي كان يهيمن عليها الدروزـ في وقت كانوا، على المستوى التنظيمي والديني، يعقدون صلات أوثق مع روما. في ظل هذه المكانة المتقدمة التي حظي بها المذهب الماروني في دير القمر، بات هذا المعبد المقدس للسيدة العذراء، نقطة حشد وجَمع، سواء في أثناء الخصومات التي عكرت صفو الأمن في القرن الثامن عشر، أو في ظل الصراع بين الدروز والموارنة. 

ثمة صورة أخرى مزجت السياسي بالمقدس، وتمثل رسماً لشمعون في قلب المسيح، وهي لم تطبع بشكل تجاري في مطبعة، بل هي مجرد صورة، واسم المصور وعنوانه مشار إليهما في الصورة نفسها، وباللغة الفرنسية: "استديو الحج، شارع بيت الرب بيروت". وظهرت العام 1958، أي العام الذي شهد صدامات دامية فرضت على شمعون أن يتخلى عن السلطة، بعدما كان قد صمد لبعض الوقت أمام التمرد الذي هاجم سياسته ورغبته في تمديد فترة رئاسته. لقد ألصق مصوران، صورة شمعون، في صورة كبيرة لقلب المسيح وطُبعت ووُزعت بكميات، لكنها لم تنتشر بقوة. يقول شوفالييه إن قلب المسيح المقدس الذي نراه في الصورة، هو موضوع بدأ يطغى حضوره منذ القرن التاسع عشر من خلال الرسوم والتصاوير "السوليبسية"(متاجر الرسوم الدينية). وتبجيله المتأخر في أوروبا، مع أنه نشأ فيها، لا يرتبط بالعقائد الإيمانية التقليدية لمسيحيي الشرق، بل أُدخل من قبل المبشرين الأوروبيين، خصوصاً الفرنسيون منهم.

صورة شمعون مع العذراء كانت علامة انطلاقه نحو الرئاسة، وصورته الثانية أنهت فترة مأساوية من تاريخ لبنان. لقد ولدت الأيقونات الدينية لشمعون، من مثل تلك المشاعر الشعبية، ومن رغبة الزعيم وأنصاره في الاستحواذ على تلك المشاعر. يقول شوفالييه: "إن صورة الورع الديني المرتبط بالسياسة، تمثل اللحظات التي تجلت فيها تلك التجارب الانسانية لتبين وزن الطائفية وردّ فعلها. ولتقدم دلالة تاريخية واجتماعية لا تخلو من أهمية وفائدة".

وأصدر الدكتور زيدان كرم، طبيب شمعون الخاص، كتاباً عن شمعون يظهر جوانب مهمة من الإفراط في أيقنة الرئيس "النمر"، كما تحلو للبعض تسميته، والمشهد الأكثر دلالة كان في لحظات مغادرة شمعون قصر القنطاري الرئاسي. يقول كرم: "في 23 أيلول 1958 تمام الساعة الثانية عشرة والنصف، جرى حفل التسلّم والتسليم في قصر القنطاري. خيّم على مشهد وداع الحرس الجمهوري للرئيس، جوّ عاطفي، وساد الذهول محيط الرئيس وكتب أحدهم لشمعون: "ليحفظك الله! أنت أنقذت لبنان! لا تتركنا!". قد تكون هذه المناجاة تعبيراً واضحاً عن فكرة البحث عن المخلًص والمنقذ التي كانت تطمح اليها مجموعة من اللبنانيين، والمناجاة هنا تبدو كأنها شعور باليتم بعد ترك الزعيم السلطة تحت وطأة الأحداث والتحولات والحروب، وقد غلّب الجمهور المسيحي في تعاطيه مع صورة شمعون، المنطق الكنسي الديني، على الواقع السياسي، وبالتالي غلب على صورته الترجيح الأهلي الخلاصي والشعبوي و"الطوباوي".

ثمة نيّة عونية لاستعادة أمجاد زمن كميل شمعون، لكن لا الزمن الآن زمن عبد الناصر، ولا ميشال عون هو كميل شمعون. مع التذكير بأنها ليست المرة الأولى التي توضع صورة عون مع العذراء، وفي أكثر من مناسبة شبّهه أنصاره بنابليون، على أن النزعة الشعبوية التي لطالما حركت ميشال عون، كانت وحيدة الجانب واختزالية إلى حد كبير. فبعد تلك المهرجانات الحماسية، أواخر الثمانينات من القرت المنصرم، في القصر الجمهوري في بعبدا، صار الرجل موضع طقوس وعبادة جدية، تصوّره ملصقات ضخمة على شاكلة القديس جاورجيوس يصرع التنّين، وتعلن صحيفة "ليفي" (اليقظة) الناطقة باسمه "أن الشعب ولد منذ ستين يوماً فقط (أي منذ بدأ جمهور يلتف حول عون)"، على ما كتب فواز طرابلسي في "تاريخ لبنان الحديث".

(*) المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ترجمة جمال الشلبي(2008)
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها