الأربعاء 2019/08/21

آخر تحديث: 12:52 (بيروت)

آلي سميث "أفضل مؤلفة بريطانية حية"...فلماذا حُرمت "مان بوكر"؟

الأربعاء 2019/08/21
آلي سميث "أفضل مؤلفة بريطانية حية"...فلماذا حُرمت "مان بوكر"؟
أسلوبها اللغوي ذكي، وسخريتها السوداء هادئة، لا سيما في رباعيتها الفصلية
increase حجم الخط decrease
خلص استطلاع أجراه مؤخراً، الملحق الأدبي الشهير لصحيفة "التايمز" البريطانية، بين 200 من المراجعين والأكاديميين والكُتّاب، إلى تسمية آلي سميث(*) كأفضل مؤلفة بريطانية أو إيرلندية على قيد الحياة. تبعها في القائمة كل من هيلاري مانتل وزادي سميث. ورغم تأخر سميث عن زميلتيها من حيث أرقام مبيعات أعمالها و"حضورها" في المسرح الأدبي، تبقى تسميتها في طليعة استطلاع "التايمز" مُسببة ودالة، ولم تسقط من السماء. فقد حظيت بتقدير نقدي كبير لسنوات، ونودي باسمها كمرشحة محتملة للحصول على جائزة نوبل للآداب، ووصلت إلى القائمة النهائية القصيرة لجائزة مان بوكر الانكليزية أربع مرات، من دون أن تفوز بإحداها، وفي هذا إجحاف كبير، إذ وجب على الجائزة أن تذهب إليها منذ وقت طويل.


الحديث عن "مان بوكر"، تحديداً، يأخذنا إلى روايتها الأولي في رباعيتها الروائية الفصلية، التي نحن بصدد إلقاء الضوء عليها في هذا المقال. فعندما ظهرت روايتها "خريف"(**) العام 2017 بادئة بها رباعيتها الروائية، تم تقديمها باعتبارها "أول رواية كبيرة عن بريكسيت"، وهي كذلك فعلاً، ضمن أشياء أخرى أوسع، ووصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة المرموقة، قبل أن يقتنصها الأميركي جورج ساندرز بروايته "لينكولن في باردو". تُرجمت "خريف" إلى العربية في العام الماضي، وفي غضون ذلك، ظهرت "شتاء" في بريطانيا، وتلتها "ربيع" في أيار الماضي، وترجمتا إلى أكثر من لغة.


بظهور الروايات الثلاث، كلٌ في فصلها الذي تحمل اسمه عنواناً لها، أصبح من الواضح على نحو متزايد ما تفعله سميث بدورتها الروائية الرباعية. مع نشر "خريف"، بدا بالفعل أنها تريد الكتابة بإيجاز قدر الإمكان عن الأحداث الجارية. في هذه الرواية، أدى الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والانقسام المجتمعي المصاحب له وضجيج دعوات كراهية الأجانب الناتجة عنه، دوراً مهماً في الإبانة عن منطق داخلي يغلّف رواية هي في الأساس عن اكتشاف الذات وقبول الآخر المختلف، ترى التاريخ كمرادف آخر للسخرية من العيش في أوقات عجيبة. على مستوى القصة، ليست الروايات استمراراً لبعضها البعض، لكنها تشكّل وحدة وثيقة الصلة من حيث التصميم والبناء الروائي والأسلوب والموضوع. تختار سميث دائماً افتتاح رواياتها بإطار زمني، وغالباً ما يحوز تشارلز ديكنز استحقاق تصدير الرواية بمقتبس منه أو بإشارة تحيل إلى قصصه. في "خريف"، تجسّد الأجواء القاتمة بعد استفتاء بريكسيت بإشارة مقلوبة إلى الجملة الأولى من "قصة مدينتين": "تلك كانت أسوأ الأوقات، أسوأ الأوقات". في افتتاح "شتاء"، نطالع جملة محرّفة من "ترنيمة عيد الميلاد" تقول: "لقد مات الله، مات كما يفعل دائماً". في "ربيع"، نسمع صدى الأب المسيطر توماس غرادغريند من "أوقات عصيبة": "لا نريد سوى الحقائق".

إنها جُمل يسهل على البريطانيين التعرّف عليها، حتى ذوي الخبرات القرائية المتدنية، بفضل اقتباسات تلفزيونية لا تعد ولا تحصى لأعمال ديكنز الأدبية. تضيف تلك الجمل الافتتاحية بُعداً مميزاً إلى الصورة المربكة والمفككة للفترة الزمنية التي تنقلها سميث: لمسة من قسوة الثورة الفرنسية، لمحة أولى من رحلة تحوّل "إيبينيزر سكروج" من عجوز متذمر بخيل إلى شخص كريم دافئ القلب، أو استدعاء شخصية صعبة المراس لا تهتم إلا بالحقائق والأرقام الباردة مثل توماس غرادغريند. حين يجهز الجوّ العام، تبدأ سميث ببناء حبكتها الروائية المدروسة بعناية. والحبكة ربما كلمة كبيرة وغير دقيقة بالنسبة إلى ما نجده في روايات سميث، خصوصاً رباعيتها الفصلية. إذ هي لا تروي قصة، بقدر ما تضع موقفاً، لتخرج منه إلى مروحة من المصادقات والذكريات والخيالات والاستدعاءات والعبور رواحاً وغدواً في خط زمني لا يعترف بتقسيمات الوقت. تعاملها مع الوقت، أيضاً، يتوافق تماماً مع تلك الاستراتيجية البنائية، إذ تنقله لنا الكاتبة كما يحدث بما يحدث فيه، فيصبح الأمر مثل النظر إلى لوحة واحدة يتجسّد عليها موضوع واحد بكل زوايا النظر الممكنة.

في "شتاء"، عنصر الحبكة المركزي، كما هو متوقع تماماً، هو عشاء عيد الميلاد. مكان الأحداث: منزل ضخم في شبه جزيرة كورنوال، جنوب غربي إنكلترا، تملكه سيدة الأعمال المتقاعدة صوفيا. الضيوف: ابنها آرت، وصديقته شارلوت، وشقيقة صوفيا، إيريس. لن يكون لقاء مريحاً بالمرة، لأن أياً من الضيوف ليس مرحباً به في الحقيقة. تكره الشقيقتان بعضهما البعض، حيث صوفيا بمثابة "ديلي ميل اليمين"، كناية عن شعبويتها ومحافظتها، بينما إيريس الناشطة طيلة حياتها عادت لتوها من اليونان، بعدما ساعدت في استقبال اللاجئين. علاوة على ذلك، شارلوت في الحقيقة ليست بمثل صورتها التي تحاول رسمها، فهي شخصية مراوغة ذات صفات متناقضة تماماً. أما آرت، فيميّز إدعاؤه الذاتي بطريقة مختلفة، إذ يكتب مدونات عن أماكن طبيعية لم يزرها يوماً! بين الأحاديث والمجالسات والخيالات، وما إلى ذلك، تتسلّل سميث بانتظام إلى سوءات وفساد العالم الخارجي. أزمة اللاجئين، حريق برج غرينفيل، سياسة دونالد ترامب المتملصّة من الحقائق، التغيُّر المناخي وغيرها من شؤون حالية تبرز وجودها في موجة انفعال غير مقصودة من الكتابة النبوئية، حتى أن بومة مينيرفا تعبر خلال تلك الدفقات بصورة غير متوقعة.

في الجزء الثالث من الرباعية، "ربيع"، تخترق ضوضاء الشارع البريطاني شقوق الحكاية، لتصبح الرواية أكثر أجزاء الرباعية سياسيةً حتى الآن. الوقت، كالعادة، يروح ويجيء، في فترة تتراوح بين سبعينات القرن الماضي وحتى العام 2018. نلتقي ريتشارد، مخرج أفلام سابق مسكون بطيف ابنته المتخيلة بعدما فقد الاتصال بابنه الوحيد عقب طلاقه في أواخر الثمانينات، ويسعى لإيجاد شيء ما لتكريم ذكرى حبيبته الراحلة مؤخراً، باتريشيا. هناك بريتاني هول، التي لم تستطع تأمين كلفة دراستها الجامعية فانتهت للعمل حارسة في ما يبدو كسجن، لكننا نكتشف فعلياً أنه "مركز إغاثة لاجئين مصمم على هيئة سجن". ثم هناك "أوتسايدر" أخرى في ذلك المكان اللاإنساني الرهيب، تتمثل في أوليفيا البالغة من العمر 12 عامًا، وهي طفلة مختلطة العرق في مهمة غامضة ترطن أحياناً كمثقفة بالغة، لكن لديها في الوقت نفسه سمتاً طفولياً. وهي تبدو كإشارة إلى الناشطة السويدية غريتا ثونبر البالغة من العمر 16 عاماً (ناشطة سويدية بدأت، في سن الخامسة عشرة، في الاحتجاج خارج البرلمان السويدي في آب 2018، حول الحاجة إلى اتخاذ إجراءات فورية لمكافحة تغير المناخ). ما زال التغير المناخي، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وقضايا الخصوصية، والصعود المزعج للقومية اليمينية، في ذهن سميث. لكن التركيز الرئيسي في "ربيع" هو أزمة المهاجرين العالمية والمعاملة البشعة للاجئين.

لكن كما ذكرنا، فأحداث وحبكة الروايات ليست مكمن تركيز كاتبة مثل آلي سميث قادرة على كتابة رواية عظيمة لا تتابع شيئاً محدداً ولا تحمل عنواناً مفهوماً (كما فعلت في روايتها "كان ولكن ذلك الحقيقة"). المثير في رواياتها هو عودة المواضيع والأشكال، في كل مرة في مظاهر مختلفة، وفي استمتاعها باللعب اللفظي والتوريات، بصورة كفيلة بإخضاع مترجميها للاختبار في بعض الأحيان. جنباً إلى جنب مع تكنيكها الطباعي غير التقليدي (مثل عدم وجود علامات اقتباس)، بما يعني إنه يجب عليك قراءة كتبها بوتيرة بطيئة، للإلمام بما تقرأه والاستجابة، ربما، لرغبة الكاتبة في تحفيز قارئها وتوسعة آفاقه.

بوتيرة إنتاج كتابي وتصميم ديكنزيين (نسبةً إلى ديكنز) بالتركيز على المشكلات الحالية المؤرقة، تفجّر سميث غضبها على الظلم الشائع عالمياً، وفي الوقت نفسه، تُظهر شغفها الدائم بالفنون بعذوبة بالغة. تنجذب هذه الكاتبة الاسكتلندية بشكل طبيعي إلى الغرباء، وتفهم حقاً الخسارة والحزن والمرارة. إنها تبدي اهتماماً حقيقياً بكبار السن وما يمكن أن نتعلمه منهم، ولكنها ترى أيضاً الأمل في المستقبل لدى الشباب الأذكياء. يميّزها أسلوبها اللغوي الذكي، وسخريتها السوداء الهادئة، وإلحاحها على إمكانات تعزيز الحياة بالحب والالتزام والمسؤولية تجاه الآخرين، وقدرتها على تأليف قطع أدبية متقنة بهندسة غير ملحوظة من فرط دقتها، تغنّي إنسانية مفقودة بلا نشاز أو نواح. ربما تكون رباعية سميث الفصلية قد كُتبت على رأس الأحداث الجارية، لكن في الحقيقة، موضوعها لا يحدّه زمن معيّن: الإمكانية الدائمة للتحوّل والتغيير، كما يجسّدها الأطفال والغرباء. وهذا، بالنظر إلى السياق، رسالة أمل واضحة.

"الهواء الساخن يرتفع لأعلى ولا يستطيع حملنا، لكنه يساعدنا على الارتفاع". كذلك تفعل روايات آلي سميث. فما أنجزته في مشروعها الروائي الطموح حتى الآن هو بالضبط ما نحتاج من المثقفين والأدباء والفنانين القيام به في أوقات مشوَّشة مثل التي نختبرها: فهم ما نعيشه، تعزيتنا، والحفر لإيجاد إجابة عن سؤال كيف وصلنا إلى هنا، والمساعدة على الاعتقاد بأننا سنجد طريقاً للخروج. هذا ما نريده من الكلاسيكيات، غالباً، لذا نعاود قراءتها بحثاً عن العزاءات في استعاراتها القديمة التي لا تكف عن الحلول بأشكال جديدة في عصور لاحقة. لكن سميث، بكلاسيكياتها الحديثة، وراهنية أسئلتها وخلودها معاً، تمنحنا مصدراً قوياً وضرورياً لتغذية قدرتنا على  احتمال هذا العالم وذلك الوقت الذي نعيشه الآن.

(*) ألي سميث (1962 - إينفيرنيس، اسكتلندا) روائية ومسرحية وأكاديمية وصحافية اسكتلندية. ولدت لأبوين من الطبقة العاملة، إذ نشأت في أحد منازل الإسكان الاجتماعي. درست الأدب الإنكليزي في أبردين، ثم في كامبريدج، للحصول على درجة دكتوراه، لم تنلها أبداً. في مقابلة أجريت معها العام 2004، تحدثت عن صعوبة إصابتها بمتلازمة التعب المزمن لمدة عام وكيف أجبرها ذلك على التخلي عن وظيفتها كمحاضرة في جامعة ستراثكلايد للتركيز على ما تريد حقاً القيام به: الكتابة. من بعدها كتبت أفضل أعمالها. تعيش حالياً في كامبريدج مع شريكتها سارة وود، التي تهديها جميع كتبها.

(**) صدرت "خريف" بالعربية عن دار "روايات" بترجمة ميلاد فايزة. ومن المنتظر صدور الترجمة العربية لـ"شتاء" أواخر العام الجاري.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها