الأحد 2019/08/18

آخر تحديث: 11:35 (بيروت)

بدر شاكر السياب وأميركية "حوار" و"شعر"

الأحد 2019/08/18
بدر شاكر السياب وأميركية "حوار" و"شعر"
تمثال السياب
increase حجم الخط decrease
هنا الحلقة الثانية والأخيرة من مقالة "بدر شاكر السياب لعنة المال والسياسة"ـ بعدما نشرنا الحلقة الأولى أمس.

والسؤال ما سر مجلتي "حوار" و"شعر" اللتين كان "رفاق الأمس" للسياب يحذرونه منهما... النافل أن مجلة "شعر" تتجاوز كونها مجلة أدبية إلى كونها حركة شعرية حاولت التأثير في مسيرة الأدب العربي من خلال دعوتها لهدم الثوابت الثقافية والانفتاح على الثقافة الغربية والعالمية. فكانت منظمة الحرية الثقافية تشتري منها 1500 نسخة (كتاب "الحرب الباردة الثقافية")، وصدر أول عدد منها في العام 1957 تزامنا مع ازدهار فكرة القومية العربية آنذاك في الشارع العربي واستهجان الفكر الغربي وخاصة الأميركي، مما جعل الحكومات العربية مثل سوريا والعراق تمنع دخولها. وبحسب الشاعر التونسي المنصف الوهايبي فإن المجلة اتهمت بـ"التغريب"، لأن البعض رأى أنها تتسبب بقطع الصلة بين الأدب العربي الحديث والأدب العربي القديم. من جهته، اعتبر أحد مؤسسي المجلة الشاعر شوقي أبي شقرا أن المجلة كانت بمثابة انتقال إلى الروح الجديدة في القصيدة العربية وكانت "مركباً لبلوغ شاطئ آخر لها". وإلتف حولها الكثيرون من الشعراء والكتاب الذين كانت لهم تجاربهم الخاصة والمميزة أمثال يوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط وغيرهم، الأمر الذي ساهم في انتشار المجلة بشكل واسع في العالم العربي. واجهت المجلة إلى جانب المراقبة الدولية معارضة شعبية لا تقل ضراوة عن الأولى، حيث اتهمت من قبل قطاع عريض من الرأي العام باستنساخ تجربة أجنبية لا تتشابه في مضمونها مع الواقع العربي. وأمام هذا الواقع لم تستطع المجلة مواجهة المد العربي الصاخب، الذي نجح في تعطيل عجلة المجلة وإغلاقها جزئيا بين عامي 1964 و1967 بعد نشاط دام نحو 8 سنوات، ثم انطلقت من جديد إلا أنها توقفت بشكل نهائي في خريف 1970.


ويوسف الخال، الذي كان يصدر المجلة وقع عليه اختيار منظمة حرية الثقافة الاميركية في البداية لإصدار مجلة "حوار"، كانت تموّلها أيضًا المنظمة نفسها التي كانت أيضًا تدعم ماليًا ومعنويًا عددًا من ألمع الأسماء، منهم جان بول سارتر، برتراند راسل، ستيفن سبندر، وجورج أورويل، والأخير قام بتغيير بعض أحداث ونهايات رواياته بناء على طلب المنظمة! في مذكراته "ذكريات في الترجمة"، كتب دنيس جونسون ديفز، أحد أشهر مترجمي الأدب العربي إلى الإنكليزية، أن جون هانت ممثل "منظمة حرية الثقافة" قال له في أوائل الستينيات إنه يفكّر في إصدار مجلة ثقافية باللغة العربية وإسناد رئاسة تحريرها إلى يوسف الخال، إلا أن دنيس اقترح عليه اسم الشاعر توفيق صايغ، وكانت تلك هي مجلة "حوار": مجلة ثقافية، ظهرت في تشرين الأول/أكتوبر 1962 وعلى صفحات عددها الأول مقابلة مع ت. س. إليوت. ومن كتاب "مذكرات توفيق صايغ بخط يده" تحقيق محمود شريح نعرف أنه قضى الفترة الممتدة بين 7 أبريل و31 يوليو 1962 بين بيروت ولندن وباريس، لتأسيس المجلة.

شاركت في المجلة نخبة من المفكّرين العرب وأفسحت المجال أمام كتّاب القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد إلّا أنّها حوربت منذ صدورها لارتباطها بمنظّمة حرية الثقافة، ورأى بعض المحلّلين آنذاك أنّ هذا الهجوم وليد تسلّم اليسار مقاليدَ الصحافة في القاهرة... لقيت المجلة قبولاً حسناً، إذ تضمنت أعدادها الأولى رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيّب صالح كاملة، غير أن الكثيرين في العالم العربي كما يذكر المؤلّف لم يكونوا سعداء حيال راعيها الرسمي. وعندما سألهما توفيق عن السبب أخبراه بأن الشكوك تساورهما في شأن الراعي وأنهما ليسا في وضع مجازفة معه بالكتابة لمجلة ينظر إليها الكثيرون بعين الشكّ. وما قد يثير الاستغراب، هو أن مجلة "حوار" منحت جائزة سنة 1965 ليوسف إدريس وقَبِلها في البداية، ثم أعلن رفضه له، وكان سبب الرفض هو مكالمة تلفونية تلقاها من سامي شرف سكرتير رئيس الجمهورية جمال عبدالناصر للمعلومات والمتابعة، نقل له فيها سؤال الرئيس: هل يمكن أن تقبل جائزة من مجلة تموّلها المخابرات الأميركية المركزية؟ وتقديرًا لرفض يوسف إدريس تلك الجائزة، منحه الرئيس جمال عبدالناصر قيمتها المالية.


كشفت مجلة "نيويورك تايمز" عام 1966 ان "منظمة حرية الثقافة العالمية" التي تمول مجلة "حوار"، تتلقى معونات من وكالة المخابرات المركزية الاميركية، هكذا فإن جام الغضب سوف ينصبّ على توفيق صايغ ويتهم بأنه "جاسوس أميركيّ". الناقد المصري غالي شكري قال في رسالة لصايغ "يا لضيعة العمر. فبعد كل الشقاء والحرمان وأسوار المعتقلات أراني في لحظة واحدة أكلت خبزي، وأكل أولادي معي، من الكتابة في مجلة يمولها الاستعمار". ولمّا تأكّد توفيق من ارتباط المجلة بمنظمة حرية الثقافية أصدر بيانه الشهير في أيّار 1967 معلناً احتجاب المجلّة إلى أن يتوفّر لها تمويل عربيّ، وقال الشاعر يوسف الخال في إحدى المقابلات إن المجلة لو وضعت صورة زعيم عربي لاستمرت. على أنّ المجلة بلغت رقيّاً، من حيث المادّة والإخراج والتوزيع، لم تبلغه مجلّة عربيّة خلال العقود الأربعة الأخيرة، إلّا أنّ تعثّرها الأساسي يعود إلى اعتبارها يمينيّة في القاهرة وماركسيّة في الدول العربيّة المحافظة. يكتب توفيق صايغ فى مذكراته: "لا عدد 28، أنا أقفلت المجلة، دفعت مرتبات الموظفين، وأهدى الأثاث إلى مؤسسة ثقافية أحبها، عصرًا حضرت بياني للصحف". وصباح الأحد 21 مايو 1967 نشرت جريدة "النهار" اللبنانية البيان الذي أعلن فيه إيقاف "حوار"، تلمس فيه سخطًا على الأميركيين ومخابراتهم ومؤسساتهم الثقافية، وفى البيان يعتب صايغ على الأوساط الثقافية العربية التي أساءت إليه ونالت من سمعته الوطنية دون أن تتحرى الحقائق، ويهاجم المثقفين الذين هاجموه بفعل الغيرة والتنافس. وفي اجتماع الجمعية العمومية الذي عقدته المنظمة العالمية لحرية الثقافة في باريس في أيار 1967 بعد سنة من التساؤلات الصحافية عن "الفضيحة الفكرية"، أعلن المدير العام للمنظمة أن الانباء القائلة إن الاستخبارات الاميركية مولت المنظمة أنباء صحيحة، واستنكر بلهجة شديدة الخدعة التي تعرضت لها المنظمة على يد الاستخبارات الاميركية. ولم تمض أسابيع على إيقاف المجلة، حتى ودّع صايغ بيروت ذاهبًا، في أكتوبر 1967، إلى الولايات المتحدة محاضرًا في جامعات برنستون وجونز هوبكنز وشيكاغو وتكساس وكاليفورنيا وهارفارد،. وكانت نهايته المؤلمة في أميركا (موته بذبحة قلبية، داخل مصعد جامعة بيركلي).


وبعد مرور عقود على قضية علاقة الشعراء والمثقفين بمنظمة حرية الثقافة، لا تزال موضع جدل، هناك فريق يؤرخ المرحلة باعتبارها لحظة للإبداع بغض النظر عن مصادر الأموال التي تتلقاها المجلات، في المقابل هناك أشخاص يحاسبون الشعراء انطلاقاً من الموقف واللحظة، وكتب الصحافي سمير عطالله: "من خلال الشعر والشعراء حاولت السي. اي. ايه في ما بعد الوصول الى الناس الذين لا يطيقون سياسة اميركا او الغرب. واقيمت من اجل ذلك جمعيات وحركات وانشئت مطبوعات وقف خلفها المال القادم فعلاً من الدهاليز. وعندما ايقن المرحوم توفيق صايغ ان مجلته "حوار" ممولة من السي. اي. ايه اغلقها واعتذر ومات في غمها، هو ابن العائلة المنخرطة كلها في النضال الفكري على ارقى ما عرف الفكر العربي. ومات الشاعر يوسف الخال في حسرة التهمة هو ايضاً. لكن ادونيس يؤكد، ان حركة "شعر" بريئة من الدعم او الدفع الاميركي، ويقول الشاعر الكبير ان ثمة عرضاً قد قدم بالفعل ويضيف ضاحكاً: لقد احلناهم على سوانا".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها